أخر الأخبار
الصفحة الرئيسية المقالات وكلّ الحِكاية : عيون "إيجة "!

وكلّ الحِكاية : عيون "إيجة "!

25-01-2017 01:42 PM


ناديا هاشم / العالول
أُلْقي بالصحيفة الصباحية جانبا لعلني أحذِف نظرة الطفل السوري من ذهني .. بِحيرتها التي تستنطق عبثا شواطىء التيه والضياع بعد ان حطّت البراءة رحالها بجزيرة "ليسبوس " اليونانية في بحر إيجة..
تراه يقف مثقَلاَ بملابسه الشتوية وبحجم كبير من معاناة تروي مسلسل الاجتياح المبرمَج للطفولة العربية البريئة على يدِ شريعة الغاب التي باتت المرجعية الوحيدة للوجه الآخر لإنسانية متغوّلة تنضوي تحتها كل صنوف اللا إنسانية البشعة فنسينا المعنى الحقيقي لإنسانية الإنسان ..
سلسلة أهوال لا تُصَدّق حوّلتْهُ فجأة الى إنسان هرم ينطبق عليه القول:
"نحن لا نكبر عندما يمر بنا الزمن
ولكننا نكبر عندما تموت الأشياء بداخلنا"..
فالهرَم ليس مقتصرا على كبار السن فحسب ..فقد كبر الجميع وهرموا بدون استثناء بعد ان صغرت العقول وتراجعت النفوس تحت مطرقة الجشع لتنتقم من طفولة شتّتَها الزمان فمضت تبحث عن شواطئ غريبة توفر لها الأمن والأمان..
واثناء رفضي للكابوس المعاش متمنية الإستيقاظ منه على واقع أفضل عرجتُ على أحد المحلات لألتقط بعض الحاجيات.. وسرعان ما تقدّمت مني إحدى العاملات بالمحل لمساعدتي ..صبيّة "بهيّة "الطلعة.. ولا أدري كيف تشعّب بنا الحديث بشجونه المتفرِّعة فأعربَتْ عن ضيقها بالحياة المكتظة باستنزاف دائم للجسد والروح معا !
وأُسْقِطَ بيدي .. اين المفرّ ؟ فالعيون الحزينة تطاردني مرة أخرى من الصباح للمساء حتى عيون بهيّة !
فبالرغم من شبابها غير المقيَّد بعد بالمسؤوليات الحقيقية إلا أن همَّها غدا أكبر من سنوات عمرها ،فعيونها البهيّة تحمل نفس النظرة الملتاعة التي حاولتُ عبثا نسيانها هذا الصباح والهرب من رُهابها ..
وعاودتني نظرة الطفل الواقف على سواحل المجهول حاملة بطيّاتها أمواجا من الانكسار المتكسّر على شواطىء الغربة والاغتراب .. وبالرغم من تشظّيها إلا أن أطرافها المسننة قادرة على اختراق القلب والعقل والوجدان ..
وكالعادة أخرجتُ علبة الألوان المخفية بين جوانحي وبدأت أُلوّن الأجواء الكالحة فلعل وعسى تنمو الأجنحة المتكسّرة وتعود للتحليق مرة أخرى ..
حدُّثتُها قليلا عن الزمن الجميل الذي عشناه لفترة وجيزة - قبل ان يتم اختطافه منا - منقلبا بين عشيّة وضحاها إلى زمن غير جميل
قالت ْ: على الأقل ..عشتُم اللحظة الجميلة التي لم نعشها نحن ولم نختبرها على الإطلاق!
فتساءلتُ بدوري : ترى ايّهما أفضل .. عيْش اللحظة القصيرة الجميلة المسروقة ثم نقضي أيامنا متحسرين على اغتصابها .. أَم عدم عيْشها على الإطلاق فبذلك نكسب راحة النفس بغياب التحسّر عن قاموس حياتنا .. فالحسرة تسمّم الحاضر والمستقبل!
عادت عيونها تطالبني بإجابات أكثر فعالية لعلها تجد فيها بلسما يشفي شباب جراحها ..
ولكنني آثرت التوقف عند هذا الحد والمغادرة بعد ان نفذت علبة الألوان من ألوانها .. ولم يعد بالإمكان أفضل مما كان ..على الأقل بتلْك اللحظة بالذات ..
ومضيتُ بسبيلي .. سبيل الآلام.. أتساءل عن مصير الزمن الجميل المختطَف وألعَنُ خاطفيه
العابثين بحياتنا وبحياة أجيالنا ..فأي حق يمنحهم الاستخفاف والعبث ببراءة الطفولة وأحلام الشباب وآمالهم الى الحد الذي يدفعهم لهجرة الأرض والإنسان أو هجرة الحياة نفسها !
وعادت عيون الطفولة المندحرة على شواطئ ليسبوس ببحر إيجة تؤرقني مرة أخرى ..
ليسبوس و ما أدراك ما ليسبوس!
كمْ حلّق خيال طفولتي بين الجزر اليونانية في زمن أتاح لنا التحليق على غمامة بيضاء تنقلنا ببساطة حول العالم بدون حواجز الزمان والمكان والانسان..
وتطرُقُ الذاكرة بوّابة الطفولة الجميلة .. لتعيدني لعصر ذلك اليوم الممطِر ... والمنزل شبه خال فالكبار بالدوام المدرسي، وكنت "فاضية أشغال" أبحث عن كتاب ألتهمه بالوقت الفائض .. فوفق النظام المدرسي الموزّع في حينها على فترتيْن كانت تعطل المدارس "الإبتدائية" بفترة ما بعد الظهر بأيام الاثنين إضافة للعطلة الأسبوعية العامّة التي تبدأ عصر الخميس وطيلة الجمعة..
المهم .. اثناء انهماكي بالبحث والتقصّي عثرتُ على نسخة من الأساطير اليونانية برسومها التوضيحية غير الواضحة والمُشَحْبَرَة بالأبيض والأسود للآلهة اليونانية، مثل زيوس وهرقليس وأفروديت وحكاياتهم بالأكروبوليس ..فراقني الموضوع ومضيت أقرأ بنهَم رغم مستوى الكتاب الأعلى من طالبة - مثلي- بالثاني الإبتدائي .. ولكن شغف القراءة والتشوّق لمعرفة الجديد زوّداني حينذاك برؤية جعلتْني أتجاوز كل المعيقات اللغوية والمعاني العصيَة ، فانجلت البصيرة ، وعشتُ ساعات متنقلة بعوالم الجزر اليونانية وبحر إيجة والآلهة الإغريقية .. جمال ما بعده جمال !
وصدّقوني ..عندما زرت اليونان لم التق بذلك الجمال الذي عثرت عليه في كتاب مهترئ على رف خشبي متداع آيل للسقوط ..مما يؤكد على ان إبْصارنا للجمال هو تحصيل حاصل للجمال الساكن أصلا بعيوننا ونفوسنا.. فإنْ رحل الجمال عن النفس رحل عنها كل شيء ..النور والزهور والأمل ولن تجد بصحبتها إلا عاصفة أمطارها دموع !
فأي مستقبل ينتظر الطفولة والشباب بعد أن أُغتِصَب منها الأمل المولِّد لكلِّ معطيات الجمال؟ hashem.nadia@gmail .com





تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :