د.رحيل محمد غرايبة
حسم جلالة الملك الجدل المجتمعي الواسع حول مفهوم الدولة المدنية بطريقة عادلة متزنة وبمنتهى الوضوح، حيث انتصر للمفهوم الذي يرتكز على المبادىء الحديثة ضمن إطار المرجعية القيمية العليا المستمدة من الإسلام العظيم، مع ملاحظة عدم السماح بتوظيف الدين لأهداف سياسية ومصالح فئوية، مما يجعلنا نبتعد في هذا الوصف عن الترادف مع مصطلح العلمانية التي تقوم على مبدأ الفصل التام بين الدين والدولة، وجاءت العبارة الواضحة بالقول : ((وجملة القول أن الدولة المدنية هي دولة القانون التي تستند إلى حكم الدستور، وأحكام القوانين في ظل الثوابت الدينية والشرعية، وترتكز على المواطنة الفاعلة، وتقبل بالتعددية والرأي الآخر، وتحدد فيها الحقوق والواجبات دون تمييز بين المواطنين بسبب الدين أو اللغة أو اللون أو العرق أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري)).
جاءت الورقة النقاشية السادسة في وقتها المناسب تماماً، ويمكن أن تشكل عاملاً مهماً من عوامل التوافق المجتمعي المطلوب سياسياً واجتماعياً، و ومن أجل تقليل حدة الجدل والاستقطاب المجتمعي الحاد؛ حول دور الدين على وجه الوضوح والدقة، في تحديد معالم الدولة الأردنية الحديثة، وكيف نتعامل مع المستقبل والتغيرات الهائلة التي تجتاح المنطقة برمتها، ولذلك فإننا جميعاً مدعوون لعقد ندوات متخصصة وورشات عمل ومؤتمرات موّسعة من أجل الإسهام في توحيد المجتمع الأردني بكل شرائحه وأطيافه السياسية ومكوناته المجتمعية حول رؤية توافقية هادئة ومريحة، تنسجم مع الحداثة، دون تصادم مع ثوابتنا الدينية وثقافتنا العربية الإسلامية وهويتنا الجامعة، التي تستوعب التعددية الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية، دون تعصب أو تمييز، ودون تشنج أو تطرف في قولٍ أو فعلٍ.
أعتقد أن الورقة رؤية متقدمة على الصعيد الفكري والتنظيري، ولا تهمل معالم الهوية الحضارية الكبرى لمجتمعاتنا العربية، التي تشكلت وفقاً لرسالة النبي العربي الهاشمي الذي جاء لمخاطبة البشرية والإنسانية جمعاء من خلال خطاب : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))، ومن خلال أول محاولة تدوين دستوري إنساني عادل في التاريخ، التي أطلق عليها المؤرخون «وثيقة المدينة» التي أسست لدولة المدينة الأولى القائمة على أسس المواطنة والعدالة، والإقرار بالتعددية الدينية والفكرية والعرقية بشكل حاسم، وجاءت لتنقل العرب جميعاً من حكم القبيلة إلى حكم الدستور والقانون الحضاري المتمدن.
في الوقت الذي يتم فيه التصريح الواضح بالاستناد إلى الثوابت الدينية والمرجعية القيمية الإسلامية يتم التشديد فيه على عدم جواز توظيف الدين لأهداف سياسية ومصالح فئوية، مما يجعلنا ننحاز إلى القول أن الإسلام إطار حضاري للأمة جميعها بكل مكوناتها، ولا يجوز أن تستأثر فئة أو حزب بتمثيله أو الوصاية عليه، وهذا يقودنا إلى القول : «بمدنية الأحزاب» أيضاً، فالأحزاب السياسية يجب أن تكون مدنية ترتكز على أسس برامجية وحلول عملية لمشاكل المجتمع، بعيداً عن توظيف الدين وبعيداً عن استثارة العواطف الدينية، وبعيداً عن جعل الدين عاملاً من عوامل المواجهة والمناكفة بين مكونات الأمة الواحدة ، وبعيداً عن جعل الإسلام عاملاً من عوامل إذكاء التعصب أو الانقسام أو الاستقطاب داخل مجتمعنا الواحد.
نحن بحاجة إلى ولوج مرحلة سياسية جديدة؛ تقوم على مفهوم الدولة المدنية بتلك المعالم والمفهوم الواضح المحدد، وبحاجة إلى مرحلة تكتل حزبي مدني جديدة، تنتفي فيها كل معالم الحزبية البغيضة، التي أسهمت في تقسيم المجتمع وتوسيع الفجوة بين مكوناته، وأسهمت في إيجاد خندقة عميقة وتعصب مقيت، أدى إلى ولادة بيئة العنف واستخدام القوة في عمليات الإقصاء وحرب الافناء التي نعيشها صباحاً ومساءً في دول الجوار وليست عنا ببعيد.