د.رحيل محمد غرايبة
في الحوارات الواسعة والمستمرة التي تجري حول ضرورة الانتقال إلى مرحلة جديدة على الصعيد الحزبي والسياسي، بحيث يتم التوافق على شكل التحزب الجديد على البرنامج السياسي من خلال حشد الكفاءات والطاقات في إطار برامجي قادر على قراءة الواقع وقادر على تشخيص المشكلات وقادر على وضع الحلول القابلة للتنفيذ، وقادر على الانخراط العملي في التنفيذ والتقويم، ومن ثم يكون الفرق الواضح بين الأحزاب متمثلا بالتباين والاختلاف في التفصيلات البرامجية وفي طرق الحل وأساليبه وكيفية تحقيق الهدف، بمعنى آخر أن الأحزاب ليس لها الانخراط في الاختلافات الدينية والمذهبية والعرقية والجهوية، والأحزاب في أصل نشأتها وفكرتها الأصلية أنها ما جاءت لتثير الجدل الديني والمذهبي، وإنما جاءت لتقوم بإنشاء تجمعات متنافسة على البرامج السياسية التي تسعى لخدمة شعب الدولة كله، وليس لتعظيم مكاسب فئة على حساب فئة أخرى قائمة على التعصب والانتماء المتحجر. منع التحزب على أسس دينية ومذهبية وعرقية لا يعني محاربة الأديان ولا التقليل من شأنها ودورها في المجتمع، كما أن هذا الطرح لا يعني إلغاء القوميات والتنكر للأصول العرقية، وإنما يعني احترامها والاعتراف بها وتقدير دورها ضمن الأعراف المجتمعية السائدة على قاعدة الشراكة التامة والمساواة في حقوق المواطنة وواجباتها العامة. يقول كثير من المحاورين الذين يسمعون هذا الطرح بل كلهم أن هذا صحيح وسليم، وطرح جميل ومعقول، بل هذا هو السائد في أغلب الدول المتقدمة ديمقراطياً والتي تعتمد نظام الأحزاب في تشكيل الحكومات وفي طريقة إدارة الدولة، ولكنهم في الوقت نفسه يرون صعوبة تطبيق هذا الطرح في بيئتنا العربية بل بعضهم يصفه بالاستحالة، في ظل تجذر الحالة الحزبية على نقيض هذا المفهوم مدة طويلة من الزمن، بحيث أصبحت الأحزاب في معظم الأقطار العربية تمثل الدين أو المذهب أو الطائفة أو الجهة، بمعنى أن الحالة الحزبية العربية تشكلت على هذا النحو مما يزيد على قرن من الزمن، فهناك أحزاب إسلامية وأحزاب قومية عربية، وأحزاب شيوعية واشتراكية، وهناك أحزاب كردية وسنية وشيعية وتركمانية ومارونية وأمازيقية، وهناك أحزاب جهوية وهكذا، وتأصل هذا الوضع وهذه الصورة في أذهان الناس ودخلت في جيناتهم الوراثية. يجب الاعتراف بأن المهمة صعبة وشاقة، ويكتنفها عوائق كثيرة وعديدة ومعقدة، بعضها يعود للألفة الطويلة، وبعضها يعود لفهم ديني عقدي مغلوط وغير صحيح، وبعضها يعود لتدخل خارجي لا يخلو من أحد أصناف الغزو الثقافي والاستعماري، فكل دولة كبيرة لها أتباعها وعملاؤها الذين قامت مصالحهم على هذا الارتباط وعلى هذا التمسك الأيدولوجي بهذا الطرح، مما يجعل مهمة الانتقال منها يمثل فقدان أحد سبل العيش، لكن العائق الأكبر أمام تطبيق الطرح الصحيح للحل الحزبي فيتمثل بدور الأنظمة العربية الحاكمة التي ارتبط وجودها بانعدام وجود الأحزاب السياسية الحقيقية، أو بإيجادها على أشكال محددة تخدم الحالة القائمة التي تجمع حولها شبكة معقدة من المصالح المتبادلة، وليس هناك أشد صعوبة من الانتقال من المرحلة السابقة عندما يرتبط استمرارها بمصالح بعض النخب التي ارتبط استمرار بقائها باستمرار دوام الحال السابق، ولكن في النهاية لا بد من الإصلاح طوعاً أو كرهاً.