د. محمد طالب عبيدات
في الوقت الذي يتقدم به أبناؤنا وبناتنا خريجو الثانوية العامة للجامعات للحصول على التخصصات التي يرغبون بها، أنوّه بأن وزارة التربية والتعليم نجحت نسبياً في إعادة الهيبة لهذا الإمتحان الذي يعتبر أحد المفاصل المضيئة في مسيرتنا التربوية الوطنية مما أعاده لمساره الصحيح، ولهذا فقد أصبح هذا الامتحان يشار له بالبنان كمقياس نوعي ومؤشر عادل لمخرجات الثانوية العامة ومدارسنا التي تعتبر الحاضنات التعليمية لأبنائنا، وليكمل الشباب –طلبة وطالبات- بعدئذ مسيرتهم التعليمية الجامعية كل حسب مستواه التعليمي ورغبته وليساهموا في مسيرة العطاء والتنمية لتطوير الأردن نحو الأفضل. وأنا هنا لن أخوض في الإصلاحات التي تم إجراؤها لكنني سأتحدّث عن مخرجات التعليم العام وإختيارهم للتخصصات الجامعية في زمن الألفية الثالثة.
فخريجو طلبة الثانوية العامة من المفروض أن يختاروا تخصصاتهم الجامعية بما ينسجم ومعدلاتهم في الثانوية العامة وقدرتهم العقلية ورغبة الطلبة في التخصص المطلوب وميولهم له والحاجات الحقيقية لسوق العمل ومواءمة مخرجات التعليم العام لهذه الحاجات، وقد دخل الوضع المادي للأهل كإحدى العوامل الفاعلة في هذا الصدد خصوصا بعد ازدياد الطلب على البرامج الموازية والدولية. لكن الممارسات الحقيقية تختلف البتة عن هذه المعايير سابقة الذكر، بل عادة ما تكون نتيجة لرغبة الأهل بالتخصص والطلبة آخر من يعلم، أو ضغط الأقران –الأصدقاء- أو التجمّل ومشابهة الآخرين بدراسة التخصصات التي تحتاج لمعدلات عالية رغم عدم قدرة بعض الطلبة على إكمال هذه التخصصات وغير ذلك من الممارسات. والنتيجة الحتمية لمن لم يواءموا بين معدلاتهم وتخصصاتهم أو بين معدلاتهم ورغباتهم بالطبع الفشل أو التعثر الدراسي بحيث يحول الطلبة إلى تخصصات أخرى أو يكون مصيرهم خارج الجامعات. والنتيجة الحتمية الأخرى لمن لم يواءموا بين معدلاتهم وحاجات سوق العمل هو الانضمام لطوابير العاطلين عن العمل. وبعد هاتين المعضلتين: الفشل الدراسي نتيجة لسوء الاختيار والانضمام لطوابير العاطلين عن العمل لا مجال للوم ولا مجال للتأنيب لأن القطار يكون قد فات والزمن تدور عجلته والضحية هم الطلبة الذين لم يشاطروهم أهلهم اختيارهم لتخصصهم الجامعي!
نجحت التكاملية بين وزارة التعليم العالي من جهة وديوان الخدمة المدنية والنقابات والقطاع الخاص وغيرها من جهة أخرى، لبلورة طلب إلتحاق جامعي متكامل حيث مواءمة سوق العمل للتخصصات المطلوبة والمشبعة والراكدة موجودة وبالألوان وكذلك الرسوم الجامعية وقيمتها عند كل تخصص، إضافة لمؤشرات المعدلات المقبولة للأعوام الماضية كمؤشرات للطلبة لتنير طريقهم وتهديهم للقبول بدل سوء الإختيار.
لقد كفل محور القبول الجامعي –ضمن الإستراتيجية الوطنية للتعليم العالي- تطوير سياسة القبول ومعاييره بما يتلاءم مع تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص والاستحقاق بجدارة والتنافسية والاستجابة لحاجات التنمية الوطنية ورغبات الطالب ما أمكن. ويشكل هذا إعلان للطلبة على أن معدل الثانوية العامة وحاجات السوق هما الأساس لاختيار التخصص الجامعي المطلوب وبالرغم من وجود عوامل أخرى كالأهل والأقران والميول والمواءمة بين المعدل والميول وغيرها.
نتطلع إلى أن تؤول عملية اختيار التخصصات الجامعية المطلوبة إلى عملية تكاملية وشاملة بحيث تغطي حاجات ومتطلبات التنمية كافة سواء في التخصصات الأكاديمية أو التقنية أو التكنولوجية أو التطبيقية والعملية أو غيرها لغايات رفد سوق العمل وتصحيح مسيرة الهرم المقلوب في التعليم العالي لدينا في الأردن لكثرة خريجي الجامعات في مرحلة البكالوريوس عنهم في مرحلة الكليات الجامعية التقنية والتي نحن أحوج ما نكون إليها في هذا الزمان، لأننا بحاجة ماسة لخريجي المهن المساعدة والتقنية ونحن لسنا بحاجة إلى التخصصات الأكاديمية المطروحة كلها، ونعلم أن بعض التخصصات مطلوب وبعضها مشبع وبعضها راكد لا طلب عليه.
إنني أدعو هنا إلى ضرورة التشاركية والتعاون بين الأهل وأبنائهم وبناتهم لاختيار التخصص الجامعي المطلوب ليلبي رغبة الأهل وطموح الطلبة، بحيث يكون ذلك بعد حوار معمق بين الطلبة والأهل لتفهم حاجات كل طرف وبالاعتماد على مقدرة الطلبة وميولهم لأنها الأساس في عملية القبول، وبعد معرفة الحاجات الحقيقية لسوق العمل –وهنالك نشرات سنوية توعوية تصدر عن ديوان الخدمة المدنية لهذه الغاية-، وبعد سؤال ذوي الاختصاص أيضا، وبعد الإلمام بالموضوع من النواحي كافة، لأن العملية هذه جلّ مهمة للأهل والطلبة وتحكم مصيرهم ومستقبلهم وحياتهم العملية وطبيعتها ونوعيتها. كما أنني أدعو الجامعات إلى الإسهاب في عقد الأيام التحضيرية لخريجي طلبة الثانوية العامة لغايات توضيح طبيعة التخصصات وحاجة سوق العمل والفرص المتاحة لكل تخصص، وخصوصا في غمرة فترة تعبئة طلبات التقدّم للجامعات عن طريق قائمة التنسيق الموحد والبرامج الموازية والمسائية والدولية وغيرها!
بصراحة نحتاج لأساليب وآليات وإجراءات حكومية جديدة مقنعة لدى الطلبة وأهليهم لإختيار التخصصات المطلوبة لسوق العمل، وخصوصاً التقنية منها، ونحتاج لتعديل في سُلم رواتب المهن التقنية وحوافز لذلك وأدوات لتجسير ثقافة العيب فيها، ونحتاج لتغيير ثقافاتنا المجتمعية في إختيار التخصصات، ونحتاج للواقعية الملموسة عند الطلبة وأهليهم، ونحتاج لقرار حكومي جريء لوقف القبول في التخصصات المشبعة والراكدة بدلاً من إنضمام خريجي الجامعات لطوابير العاطلين عن العمل خصوصاً وأن وزارة التعليم العالي في طور إعداد إستراتيجيات عصرية تركّز على التعليم التقني وحاجات سوق العمل، ونحتاج للمزيد من الإجراءات الحكومية والطالبية والمجتمعية في هذا الصدد.