د.رحيل محمد غرايبة
هناك حالة طوارىء تكاد تظهر في الاستعدادات الشاملة لهذا الحدث، وقد أشرفت الحكومة بنفسها على جميع المسؤولين الذين يتولون رئاسة المؤسسات المختصة والمعنية بهذا الشأن على صعيد التموين وتوفير السلع في الأسواق، وكذلك فيما يتعلق بالأزمات المتوقعة نتيجة كثرة الطلب على بعض المواد التموينية الأساسية، وهناك استعدادات مسبقة تجري على قدم وساق من أجل مضاعفة كميات اللحوم المستوردة والذبائح، ومضاعفة الجهد فيما يتعلق بطيور الدجاج، بالإضافة إلى الأرز والحلويات والقطايف والجوز واللوز والعصائر المختلفة، وهناك جهود واستعدادات تبذل لتنظيم حركة السير وتفادي الأزمات المرورية، من أجل التخفيف من حوادث السير التي يزداد معدل حدوثها في هذا الشهر الفضيل. هناك أمور أخرى تجري على صعيد ورش الأعمال، والبناء وطريقة عمل المؤسسات، وكثيراً ما نسمع عن عبارة ضرورة الإسراع في إنجاز بعض الأعمال قبل مجيء رمضان، بحيث أصبح هناك شعور طاغٍ بأن الأعمال سوف تتعطل في شهر الصيام، أو سوف تنخفض معدلات الإنجاز وساعات العمل. في هذا السياق لا بد من معالجة هذه الثقافة الجديدة التي بدأت تترسخ لدينا وأصبحنا نتوارث هذه المفردات وكأنها قدر محتوم، وغدونا نتكيف مع معطياتها بطريقة الإذعان الذي يخلو من فهم علة الصيام ومقاصده الحقيقية، ويخلو من الوقوف الحقيقي بشكل جمعي على فهم الغايات الربانية من شرعة الصيام. دعونا نقف أولاً على حقيقة فلسفة الصوم وبعض الحكم الظاهرة المقصودة من هذه العبادة الجليلة التي يمكن تلخيصها ببعض العبارات المختصرة التي تفي بالغرض، إذ أن الصوم المتمثل بالامتناع عن مفارقة كل الشهوات التي اعتاد الناس على ممارستها من طعام وشراب وغيرها، من أجل رفع مستوى السمو الروحاني لدى الفرد، ومغادرة المربع الحيواني بشيء من التوازن المدروس القائم على حسن التعامل مع مقومات الجسد وممارسة الحياة، الصوم يجذب الإنسان نحو الأفكار والمعاني والابتعاد بالعقل والذهن بعيداً عن الانشغال الطويل بأمور الأكل والشرب ومفارقة الشهوات، لتحصيل بعض التفرغ لأمور التفكر وصفاء العقل والذهن، وحسن التوجه نحو الخالق. الصوم يعلمنا أن الناس لا تموت على أنصاف بطونها ويعلمنا إمكانية تقليل الانفاق على أمور الأكل والشرب، وتعويد النفس والعائلة على بعض مظاهر التقشف ومحاولة التعايش مع الجوع وضبط النفس التواقة للشهوة والتي يزداد نهمها لمختلف صنوف الأطعمة والأشربة كلما زاد الاستغراق في تحصيلها، حيث يتبين للناس بشكل عملي أننا نملك القدرة على تقليل الانفاق وترشيد أمور الصرف المالي إلى نصف المعتاد، وهذا ممكن بطريقة عملية جماعية شاملة، ويجعلنا نشعر بمعاناة أولئك المشردين واللاجئين من إخواننا الذين يعيشون ظروفاً صعبة، بحيث ندخل دورة تدريبية عملية على كل هذه المعاني بطريقة تعبدية ونفوس رضية، تبغي الأجر ونيل رضا الخالق. لكن إذا كان الأمر معكوساً، بحيث أن نفقة العائلة تتضاعف في شهر رمضان، ويزداد الإقبال على اللحوم والدجاج والأرز والطبخ والمناسف والصواني، ويزداد على العصائر والحلويات، بحيث أصبح مصروف رمضان يشكل عبئاً إضافياً على موازنة العائلة والدولة، ويزداد الإقبال على الأسواق ويزداد الطلب على كل المأكولات والمطعومات، فهذا أمر مخالف لحقيقة الصوم، ومخالف لفلسفته ومخالف للغاية التي أرادها سبحانه وتعالى، ولذلك يتوجب على الوعاظ والمرشدين وأهل العلم، وأصحاب الرأي، وعلى كل ربات البيوت وأولي الأمر والمعلمين والأساتذة أن يشرعوا بشرح مفهوم الصوم، والوقوف على غاياته الحقيقية، حتى لا نحول رمضان إلى شهر المآدب، وشهر الطعام والشراب، والسهر على الأفلام والمسلسلات التي يتم انتاجها خصيصاً لنا بعد أن نصاب بالتخمة ولا نستطيع الحركة. أما الأمر الآخر والأكثر أهمية يتعلق بمسألة الأخلاق والتعامل والممارسة العملية التي يجب أن نرتفع بها إلى أخلاق رمضان التي تتمثل بالصبر والحكمة والتسامح والعفو، والبعد عن رذائل اللسان، لأن الخوف كل الخوف أن الناس يزداد لديهم منسوب الغضب، وتزداد سمة العدوانية لديهم التي تتضح في قيادة المركبات، وفي التنافس على المحلات وعمليات البيع والشراء، نحن نحتاج إلى مراجعة شاملة على مستوى الفرد والعائلة والمجتمع فيما يتعلق بمفهوم الاستعداد لشهر رمضان.