الشاهد -
ناجي العواجنه.
على ضفاف عمان، في أحد شوارع المخيم، في غرفة جدرانها باردة تملأها الرطوبة، كان يعلو صوت المطر المنهمر فوق الصفيح المكون لسقف المنزل، تنتشر الصور مغطية جدران تلك الغرفة، غرفة طالب يقطنها للدراسة — آنذاك — طالب يشعر بالوحدة، وتتبعثر على ارضها قصاصات وأوراق لا أدري من أين وكيف أتت، وفيها طاولة قديمة مهترئة تحمل حاسوبا معطلا، تناثرت كتبي ودفاتري واقلامي عليها. أجمل تلك الصور وأكبرها كانت تغطي نافذة مثقوب زجاجها لتخفف حدة الهواء المنبعث منها، كانت صورة لغزال قوي جامح تهاجمه الضباع لإصطياده، كان الغزال قويا شامخا منتصب القامة ذا رأس مرفوع، كان يقاوم ويحارب الضباع المعادية. ذات مرة وانا آوي لفراشي في ساعات الفجر، وفي ظلام غرفتي التي يخترقها ضوء خافت منبعث من عامود كهرباء في أول الطريق، تملكني شعور غريب بان الصورة تحدثني! فبريق عينيها لم يكن كالمعتاد ! يملأهما غضب وحشي —ومع ذلك— إحتوت تلك النظرة خوفا بتحفز بطولي! تشابهت مع نظرة انسان اجبر على الاختيار بين الإستتباع او الموت! كانت الصورة مقلقة بعض الشيء، قرنا الغزال كانا اشبه بنخلتين عظيمتين تنتجان اجود التمور، وعيناه البراقتان بإيحاء الحياة كنهرين جاريين يخترق صوت خريرهما الصمت في تلك الغرفة، وتخترق بإيحائها للحياه رأسي بصوت خفقانه الحاد. همست لي بصوت خافت تملأه الحدة: — ألم تعرفني؟.... تذكر جيدا ألم نلتق سابقا؟! قلبت جسمي الى الجهة الأخرى ، وخبأت رأسي تحت البطانية، لكن رغم ذلك بقيت الصورة وبريق العينين في مخيلتي، وكأنني لا ازال أحدق في الصورة، باءت كل محاولاتي بالفشل كي انتزع الصورة من مخيلتي، كنت لا أزال أسمع ذلك الهمس الحاد المخترق لصمت الغرفة — تذكر جيدا...إلتقينا سابقا، إنتابني شعور غريب!...شعرت أنني أعرف ذاك الغزال جيدا، وأنني أرتبط معه بحادثة لا يجب أن تمحى من ذاكرتي. أجل.... أعرف جيدا تلك العينين البراقتين الغاضبتين المقاومتين في لحظة إختيار عصيبه. لكن كيف؟ وأين؟ ومتى التقينا؟ غلف الضباب ذاكرتي، ومع ذلك كانت الذكرى تبرق من بعيد كبريق عيني ذلك الغزال، كان هناك حاجز فولاذي بين ذاكرتي وتلك الذكرى، لكن لمعة عيون ذلك الغزال حتمت علي التذكر، فتلك اللمعة تمنحني احساسا قويا أننا تعارفنا سابقا، كشفت الغطاء عن رأسي، ونهضت لآشعل ضوء الغرفة، فقد استحال علي النوم تحت تلك الوطأة، وقفت ناظرا لذات الصورة... العيون لم تزل هي كما هي، نفس البريق واللمعة والقوة والغضب، مزروعة بوجه ذلك الغزال تماما كما ينغرس الشجر في الأرض، والقرنان كما النخلتين المنتصبتين مدافعين شرسين بوجه الضباع الغاصبين، لم ألبث سوى دقائق قليلة، وإذ بتلك الذكرى تسقط الى رأسي لتصيبني بدوخة مفاجأة! لمعت خلال النفق المظلم كل تلك الأشياء التي ذكرني بها هذا الغزال، تيقنت لحظتها اننا نعرف بعضنا جيدا، أجل... كان ذلك منذ ثماني سنوات على وجه التقريب، كنت في نفس الغرفة، لم تكن الصور قد علقت بعد، كنا نتابع الأخبار بشكل مستمر، أذكرها الآن أشباحا تتلاحم منذ زمن بعيد، كنت طفلا صغيرا بالتاسعة من عمري، لم يكن في وسعنا الإختيار، فقد كان وطن النخيل، التمر، القوة والعروبة يتساقط شبرا شبرا في يد العدو راعي البقر وحلفائه، وكيف كان جيشه ومقاومته يتراجعان شبرا شبرا، كنت أرى عبر شاشات التلفاز بنادق الكلاشينكوف في أيدي الرجال الخشنة تمر من أمام الكاميرات الإعلامية كأساطير دموية، ومشاهد الصواريخ الحربية البعيدة، تخبرنا ان الحرب قد وقعت الآن، وان هناك نساء يفقدن ازواجهن، وأطفال قد تيتموا وهم مبصرون عبر النوافذ محدقين الى حلبات الموت. لا اذكر تماما في اي يوم حدث هذا الشيء، كان يوما مشؤوما جدا، فكان بحد ذاته علامة فاصلة من علامات الزمن العظيمة، من تلك العلامات التي غيرت في مجرى التاريخ. لقد بدأ الهجوم قبيل ساعات الفجر، ولقد فجعنا بالخبر من خلال شاشات التلفاز في الصباح الباكر خلال مشاهدة والدي للاخبار قبيل ذهابه للعمل . وقد توقعنا _ نحن الاطفال _ من خلال ما كنا نشاهده أن هناك اسلحة جديدة فتاكة تستخدم، ومن خلال عقلنا الصغير التخيلي أن هناك هجوما عنيفا من ناحية أخرى، كانت تعرض مشاهد البوارج الحربية تطلق صواريخ حارقة، وتسقط صواريخها وسط المدن لتحرق الأطفال والبيوت، كنت أرى مشاهد كما الحلم لأشباح نساء منحنيات يسحبن جثث الناس. بدأ الوقت يمضي، وبدأ الوطن بجيشه ومقاومته يتراجعان أمام وحشية العدو وتحالفه، وكان الجحيم قد صعد الى ظهر المدن، وبدا لي ان النجوم تتساقط جمرا على الوطن الشامخ. قالت إمرأة في احد المشاهد: _ المقاومة تقاتل بالخناجر، والنصر حتما لنا. العزيمة والإرادة ليست بغريبة عن اهل هذا الوطن، فحتى السكين يصبح مدفعا بأيديهم، بعد ان تتقيء بندقية الكلاشينكوف كل ما في جوفها. بعد كل تلك المشاهد، تمالكني خوف رهيب! وحدثتني نفسي ان أذهب لأقاتل الى جانبهم _ رغم صغر سني آنذالك _ لكني تنبهت للتشديد الأمني، فقد حال ذلك دون ذهابي. عدت أدراجي من حارتنا لأشاهد التلفاز مجددا، كانت لا تزال تعرض مشاهد وكأن سماءه مضاءة بقنابل اللهب، وكانت شرارات الطائرات والصواريخ ترسم على الشاشة خطوطا مقطعة منتهية بضوء ساطع، وكانت اصوات ما تبقى من مقاتلي الجيش والمقاومة الشعبية تغني على طريقتها في المعارك، غناء يصعد نحو عالم مجهول! يستشهد فيه الإنسان المقاوم لرأس الارهاب العالمي وهو قابض على ما تبقى من أغنية الحياة والمقاومة الجميلة، فيصعد الى السماء ليكملها هناك. قلبت المحطة الفضائية حزينا مطأطأ رأسي، لارى واسمع عبر مشاهد أخرى أصوات الطلقات بصفير مرتفع، كانت مدينة اقصى الجنوب تنتصب شامخة، عند ذلك المشهد...أحسست بحماسة غامضة!، وعندما سقطت بيد العدو وحلفائه، سمعت صيحة حادة قادمة من داخل أعماقي لتسقطني أرضا. في تلك اللحظة أخذت احدق بالتلفاز لارى مشهد الوطن على ضوء اللهب المتصاعد في سمائه، وكأنه ينظر اللي بعينين براقتين مقاومتين غاضبتين، ويبرز من رأسه المرفوع الشامخ قرنان متشعبان كنخلتين مدافعين شرسين، وليتجلى أمامي كغزال قوي مقاوم تهاجمه الضباع لإصطياده والإطاحة به. ذهبت الى فراشي بكل هدوء، فبعد هذا المشهد زال عني كل الإرتباك الذي شعرت به، ثم لم البث الا ونهضت لاعاود مشاهدة نفس المشهد على التلفاز، كان الغزال لم يزل يقاوم بقرنيه المتشعبين، وفي عينيه البراقتين الخافقتين كما النهرين الجاريين نفس التحدي الباسل الخائف بعض الشيء ،الصامد في لحظة اختيار عصيبة بين الإستتباع او الموت. قارب الصبح ان يطلع، وأنا لا زلت واقف أمام الصورة المغطية للنافذة المثقوبة، اتعبتني تلك الذكرى، لكني أحسست بإرتياح مفاجئ! .... أجل فقد إلتقيت بهذا الغزال المقاوم بعد غياب طويل، وأين؟ في غرفة باردة جدرانها تملأها الرطوبة، في بيت يقبع في أحد شوارع المخيم، بعيدا عن ذاك الوطن الذي كانت تفوح منه رائحة البطولة والعروبة والإباء. كان الغزال لا يزال مغطيا للنافذة المثقوبة، ينظر الي محدقا بنفس البريق، بعد أيام أكل عليها الدهر وشرب ... وهمس لي: _ ها قد التقينا مجددا بعد زمن... هل تذكرتني الآن؟ عمان _ الأردن _ مخيم البقعه ٧/١/٢٠١٦ ناجي العواجنه.