د.رحيل محمد غرايبة
أصبح صديق خان الذي ينحدر من أصول باكستانية مسلمة عمدة لعاصمة الضباب التي كانت تحكم مساحات شاسعة من العالم لا تكاد تغرب عنها الشمس، وقد جاء أجداده إلى بريطانيا لاجئين باحثين عن مستقر في هذه الحياة، وقد كان والده سائق حافلة، بينما كانت أمه تعمل في مجال الخياطة من أجل مساعدة زوجها في إعالة أفراد العائلة، وقد انضم الشاب خان إلى حزب العمال، وكان ذكياً لامعاً وناشطاً في صفوف الحزب، وقد تسلّم إحدى الحقائب الوزارية ثم قدمه الحزب لينافس مرشح المحافظين الذي ينحدر من عائلة ثرية واسعة الثراء على منصب عمدة لندن واستطاع الفوز.
حظي هذا الحدث بتغطية إعلامية واسعة، ونال حجما وافراً من التداول والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، وذهب عدد كبير من المعلقين إلى عقد مقارنات مع ما يجري في عالمنا العربي، ولا يخلو الأمر أحياناً من مبالغات، ولكن فوز هذا الشاب في هذا الموقع يدل دلالة واضحة على تقدم الشعوب في تجاوز مسائل التمييز وقضايا التعصب، حيث استطاع الشعب البريطاني الذي كان يمتاز بعقدة الاستعلاء الإنجليزي وعقدة الرجل الأبيض والتشبع بالنفس الاستعماري، ثم يصل الآن إلى هذا المستوى الرفيع في طرق الفرز والاختيار، فهذا أمر يستحق الإعجاب والتقدير، ويستحق الاحترام بكل تأكيد.
لكن هذا الأمر في الأصل ليس غريباً على ثقافتنا وحضارتنا لا قديماً ولا حديثاً، فعندما جاء الرسول العربي جاء ليخاطب الناس ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا أسود على أبيض إلّا بالتقوى، وتلا عليهم قول الله عز وجل ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقد تمّ تطبيق ذلك عملياً، فقد أصبح بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي من سادة الأمر، ومن الزعماء الذين يأمرون وينهون، وجاء البرامكة وتسنموا أرفع المناصب في عهد هارون الرشيد، وفي أوج قوة الدولة العباسية، وأذعن العرب لآل زنكي، والأيوبيين الأكراد والمماليك، وآل عثمان الأتراك مئات السنوات.
الأردن وكثير من الأقطار العربية والإسلامية في العصر الحديث تعد مثالاً معاصراً، حتى لا يتم قصر الحديث على التاريخ، فما زال الأردنيون يكنون الاحترام لعدد من رؤساء الوزراء الذين قدموا عبر حركات اللجوء والنزوح المختلفة مثل رئيس الوزراء «سعد جمعة» الشامي، والرئيس «سعيد المفتي» الشركسي، وتوفيق أبو الهدى، وفوزي الملقي، ورشيد طليع، وعندما يقال أول عمدة مسلم للندن، فيجب أن يعلموا أن المسيحيين لدينا تسنموا أرفع المواقع في الدولة الأردنية، بلا غرابة ولا استغراب، ولم يتم التطرق لذلك من باب المنة أو التفضل وإنما من باب ذكر الحقائق المجردة، إذ يجب التأكيد أن هذا الأمر ليس غريباً على فكرنا وثقافتنا، وليس غريباً على واقعنا، ومن الظلم القفز عن هذا الواقع بهذه السهولة أو بحديث يقترب من الشعور بالهزيمة بطريقة تتجاوز حدود المنطق.
لكن ما يجب التأكيد عليه أننا بحاجة إلى معالجة الخلل لدينا بطريقة منهجية صحيحة، من خلال التأكيد على سلامة معايير الفرز والاختيار التي يجب أن تقوم على الكفاءة والقوة والأمانة والعلم والحفظ، بعيداً عن منطق المحاصصة الذي يجري على ألسنة بعض المثقفين.