د.رحيل محمد غرايبة
بعد سلسلة التجارب التي خاضها الأردن على صعيد المسار الاقتصادي لا بد من وقفة تقويمية جريئة وحاسمة من أجل إعادة النظر في هوية الأردن الاقتصادية وترتيب الأولويات بعناية بخصوص خطوط الانتاج الأكثر جدوى والأكثر ملاءمة للإنسان الأردني والبيئة الأردنية بوجه إجمالي.
لن يكون الأردن دولة صناعية ولن يستطيع ذلك في ظل الفارق الهائل والفجوة الرقمية الضخمة بين الأردن والدول الصناعية، ولا يعني ذلك عدم الاستمرار في بعض الخطوط الصناعية الناجحة، مثل الأدوية والملابس، وضرورة تطويرها وتوفير الأسواق المناسبة على الصعيد الإقليمي والعالمي، ولن يكون بمقدور الأردن أن يصبح دولة تكنولوجية في عالم الإلكترونيات والكمبيوتر كما كان مخططاً، لأن الأردن لن يكون قادراً على المنافسة في هذا المجال مع الدول التي استطاعت أن تقطع شوطاً كبيراً مثل اليابان وكوريا وماليزيا ونمور آسيا على الوجه الإجمالي، ولا يعني ذلك عدم الاستمرار بالمحاولة، ومحاولة اللحاق بركب الدول المتقدمة أيضاً.
كما أن مسألة أن يعتمد الأردن على السياحة كما تم الترويج لهذا المسار منذ أكثر من عقدين من الزمن، لم يستطع الأردن أن تحقق إنجازاً ملموساً على هذا الصعيد، وقد رأينا أن الأرقام ما زالت متواضعة، بالرغم من التحسينات التي أدخلت على أماكن الحج المسيحية، أو من خلال حصول البتراء على وصف إحدى عجائب الدنيا، أو من خلال تحسين مقامات الصحابة، أو البحر الميت وما شابه، فالمسألة لا تعدو نسبة قليلة من الانتاج القومي، ومن كلام بعض المصادر الرسمية فإن الدخل السياحي تراجع في السنوات الأخيرة عن نسبة 60%، وفي الوقت نفسه لا ندعو إلى وقف تطوير المرافق السياحية والاستمرار بالترويج، لكن دون إفراط بالتفاؤل وتحويل البحور إلى «مكاثي».
إذن بقي القول لا بد من الرجوع إلى الأصل في تحديد المسار الاقتصادي للأردن من خلال المجال الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، فالغور الأردني يعتبر أحد الموارد بالغة الأهمية وهو هبة الله للأردن، الذي يمكن أن يشكل أحد أهم مصادر الغذاء للأردنيين والمنطقة بأكملها، إذا أحسن إدارة هذا المورد بكفاءة عالية بالتعاون مع المزارع الأردني الذي تعرض للإهمال خلال العقود السابقة، وهناك الموارد الأخرى المتمثلة بالزراعة الجبلية في مرتفعات عجلون والكورة والسلط والشوبك، التي تستطيع أن تشكل مورداً مهماً في عالم الفواكهة وخاصة التفاحيات واللوزيات والعنب، بالإضافة إلى امكانية تعظيم مورد الزيت والزيتون، حيث أن مناطق جرش الشفا غورية تشكل أفضل موطن للزيتون على مستوى العالم، وهناك المروج الشمالية والوسطى التي تعد من أفضل مناطق العالم لانتاج القمح والحبوب الأخرى، بالإضافة إلى البادية التي تشكل مورداً إضافياً بالغ الغنى على هذا الصعيد.
هناك مشكلة المياه بكل تأكيد، لكن يجب التغلب على هذا التحدي من خلال تطوير أساليب الري، ومن خلال العمل على توفير المصادر الإضافية عن طريق التوسع في إنشاء السدود والحفائر المائية واتقان مهارة الحصاد المائي.
المسار الآخر يتمثل بخط الانتاج الحيواني وهو لا يقل أهمية عن الخط النباتي، حيث يمكن التوسع في زراعة المراعي والمواد العلفية التي تحتاج إلى كمية مياه أقل من أجل تأمين حاجات مزارع الأبقار والأغنام التي يمكن التوسع بها بطريقة مدروسة ومتدرجة من أجل إعادة الحيوية المطلوبة لهذا القطاع الضامر، خاصة إذا استطعنا أن ننشىء منظومة صناعية قائمة على الانتاج الحيواني مثل الألبان والأجبان والزبد، حيث استطاعت دول أوروبية مثل هولندا وبلجيكا أن تجعل منه مورداً يعادل البترول العربي وزيادة، يجب على الحكومات الأردنية أن تعيد النظر بهوية الأردن الاقتصادية من خلال العودة المتدرجة إلى رفع نسبة الانتاج الزراعي في الدخل القومي إلى ما كان عليه سابقاً وزيادة، وهناك فرصة للنجاح في ظل المورد البشري على هذا الصعيد، الذي يحتاج فقط إلى تعاون وحسن إدارة وطنية وفق نظرة شمولية بعيدة المدى.
أتمنى على وزارة الزراعة وكليات الزراعة في الجامعات الأردنية ونقابة المهندسين الزراعيين، واتحاد المزارعين وبقية المؤسسات المختصة، أن يسهموا إسهاماً جماعياً وطنياً في رفع مستوى الاهتمام لدى المسؤولين وأصحاب القرار بهذا المسار الاستراتيجي المهم والذي يتعلق بمصير الأردن السياسي والاقتصادي، لأنه يشكل بوابة العبور نحو قوة الأردن الذاتية، أفضل بكثير من الاعتماد على المنح الخارجية التي لم تستطع حل معضلة الاقتصاد الأردني.