الشاهد - يواجه النظام السياسي الرسمي العربي أزمة استراتيجية عميقة تتفاقم مع تطورات المشهد الإقليمي والدولي، لا سيما في ظل الأحداث الجارية حاليا في فلسطين ولبنان. ويُعد الصراع بين (محور المقاومة) بقيادة إيران مع (اسرائيل) أحد أهم العوامل التي تساهم في تفاقم هذه الأزمة. وما زاد الأمور تعقيدًا هو غياب، أو تغييّب، بعض الأنظمة السياسية العربية التي كانت فاعلة في التأثير السياسي والعسكري عن الساحة الاقليمية خلال العقدين الأخيرين. من خلال استحضار تاريخها الإمبراطوري الفارسي، نجحت أيران في بناء استراتيجية تعتمد على تكييّف الدين الإسلامي، من خلال التشيٌّع، ليتوافق مع طموحاتها السياسية التوسعية في المنطقة, وقد مكّنها ذلك من توسيع دائرة نفوذها في العالم العربي عبر خلق قوى غير تقليدية فاعلة. من أهم الأدوات التي استخدمتها إيران لتوسيع نفوذها كان توظيف الوكلاء المحليين. وتُعدّ العراق وسوريا ولبنان واليمن أبرز الأمثلة على دول أصبحت ساحة لتنفيذ السياسات الإيرانية، حيث يتواجد فيها وكلاء محليون يتبنون أهدافها أو يتعاطفون مع أيديولوجيتها العقائدية والسياسية. بالتوازي مع ذلك، نجحت إيران في استمالة قطاعات واسعة من الشعوب العربية من خلال خطابها الديني والسياسي وشعاراتها البراقة مثل "الموت لإسرائيل" و"الموت لأمريكا". كل ذلك ساهم في خلق نوع من التعاطف الشعبي مع إيران في العديد من الدول العربية. وهذا التعاطف عكس أزمة أخرى داخل الأنظمة السياسية الرسمية العربية، حيث تجد بعض هذه الأنظمة نفسها في مواجهة مشاعر شعبية تتناقض مع سياساتها الخارجية. التطور الأكثر خطورة هو تحول العديد من الأنظمة السياسية العربية من كونها طرفًا في الصراع مع (إسرائيل) إلى لعب دور الوسيط. هذا التحول يعكس تغييرات عميقة في بنية النظام السياسي العربي. تاريخيًا، كان الموقف الرسمي العربي الموحد عنوانه الرئيس دعم القضية الفلسطينية والتصدي (لإسرائيل). أما اليوم، ومع تعقيدات المشهد الجيوسياسي وتغير التحالفات، نجد أن العديد من الدول العربية تفضل الحلول الدبلوماسية والوساطات، في ظل ضغط االسياسية التوسعية لايران، على اتخاذ مواقف واضحة وقوية تجاه ما يحدث في فلسطين ولبنان. هذه الاستراتيجية الدبلوماسية لا تنفصل عن استعداد بعض الدول الخليجية، لتطبيع علاقاتها مع (إسرائيل) كجزء من استراتيجية أوسع لمواجهة النفوذ التوسعي الإيراني. هذا التقارب العربي الإسرائيلي يعكس تغييرات جذرية في المفاهيم الاستراتيجية للنظام السياسي العربي، حيث أصبح التهديد الإيراني أكثر إلحاحًا وخطورة من الصراع التقليدي مع إسرائيل من وجهة نظر هذه الدول. في ظل هذه الأوضاع، تستغل إيران تطلعات الشعوب العربية لرفع الظلم وتحرير فلسطين، وعلى رأسها المسجد الأقصى، من (إسرائيل) لتعزيز نفوذها. مما يجعل من الصعب على الأنظمة العربية الرسمية بناء إجماع شعبي حقيقي ضد النفوذ الإيراني. وبينما تحاول بعض الأنظمة السياسية العربية التكيف مع هذا الواقع من خلال الإصلاحات الداخلية وتغيير سياساتها الخارجية لتكون أكثر صرامة مع (إسرائيل)، فإن التحدي الأكبر يكمن في قدرتها على مواجهة النفوذ الإيراني بشكل فعال دون إحداث انقسامات داخلية. إضافة إلى ذلك، فإن أزمة النظام السياسي العربي ليست مجرد أزمة في التوازنات الجيوسياسية، بل هي أزمة تمتد إلى الشرعية السياسية والشعبية لهذه الأنظمة. فالتبعية السياسية للنظام العربي الرسمي لبعض القوى الدولية أو الإقليمية تعكس غياب مشروع عربي نهضوي موحد قادر على الصمود في وجه التحديات والضغوط. ويبقى السؤال الأكبر هنا حول قدرة هذا النظام على استعادة دوره التاريخي كقوة فاعلة ومؤثرة في صياغة مستقبل المنطقة. مع استمرار حالة الاستقطاب في المنطقة بين محور المقاومة والدول التي ترفض النفوذ الإيراني، سيبقى النظام السياسي العربي أمام مفترق طرق. إما أن يستمر في دوره كوسيط ضعيف، أو أن يعيد بناء نفسه ليصبح لاعبًا أساسيًا في تحديد مسارات الأحداث. لكن هذا يتطلب استراتيجيات جديدة تأخذ بعين الاعتبار التحولات الجيوسياسية المعقدة في المنطقة، إضافة إلى الحاجة لإعادة بناء الثقة بين الأنظمة الرسمية العربية وشعوبها، التي ما زالت ترى في الشعارات العاطفية التي تروجها إيران بديلاً عن السياسات الرسمية الضعيفة. إيجاد حل بديل لأزمة النظام السياسي الرسمي العربي يتطلب استراتيجية شاملة تجمع بين الإصلاح الداخلي، وبناء تحالفات إقليمية ودولية جديدة. ومن أهم هذه التحالفات بناء علاقات قوية ومتينة مع القوى الصاعدة، مثل الصين وروسيا، وتعزيز العلاقات مع الدول الناشئة في آسيا وإفريقيا. هذه القوى تقدم خيارات سياسية واقتصادية متنوعة تسمح للأنظمة العربية بمناورة سياسية أكثر فاعلية في السياسة الدولية. استعادة القضية الفلسطينية كقضية محورية سيعيد نوعًا من الشرعية للنظام العربي الرسمي، ويعزز موقفه في مواجهة إيران التي تستخدم القضية الفلسطينية لتحقيق أهدافها التوسعية.
تعليقات القراء
لا يوجد تعليقات
أكتب تعليقا
رد على :
الرد على تعليق
تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن
الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين
التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد
علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.