*بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
يرزح الاقتصاد العالمي، خصوصاً في الدول المتقدمة، تحت وطأة حالة من الركود التضخمي التي امتدت بشكل
واضح على مدى السنوات الثلاث الماضية، متأثرة بداية بتبعات جائحة كورونا- كوفيد19، ثمَّ بنشوء الصراع بين
روسيا وأكرانيا، ومعزّزة بسياسات نقدية انكماشية عبر قنوات رفع أسعار الفائدة باثنتي عشرة مرة.
ويأتي ذلك في الوقت الذي بدأت فيه الثورة الصناعية الرابعة تتحوَّر في شكل جديد يحكمه فضاء التقنيات العالمية،
التي يتوِّجها الذكاء الاصطناعي، ومتسلحة بممكِّنات من البيانات الكبرى، وفضاء إنترنت الأشياء، وعالم
الميتافيرس.
في ظل ذلك كله فقد واجهت الدول التي تُعرَف بدول العالم الأول أو المتقدم، حالةً من عدم الاستقرار الذي يتكون من
التقلُّب السريع، وعدم اليقين، والتعقيد، والغموض؛ أي ما بات يُعرَف عالمياً بحالة «الفوكا VUCA».
بيد أنَّ الفرصة باتت مواتية اليوم أمام دول الاقتصادات الناشئة، الرشيقة وسريعة النمو والتأقلم، والدول الساعية
للتطورعلى الساحة العالمية، أن تستغلَّ الفرصة وتنطلق عبر «هيبرلوب» الذكاء الاصطناعي لتتسنم مقدمة
الاقتصاد العالمي؛ تجارة، وإنتاجية، وحضوراً عالمياً في مجال عالم الابتكار والإبداع والاستشراف المستقبلي. ذلك
أنَّ ممكِّنات الوصول إلى ذلك متوافرة، بل وفي متناول الجميع.
إنَّ تقدُّم الدول خلال العقدين القادمين سيكون بشكل واضح في يد الدول التي تتبنّى ممكِّنات الذكاء الاصطناعي، عبر
غزو الفضاء، وتكوين والتمكّن من السحابات الفضائية للمعلومات، والعمل في مجال هندسة البيانات، واحتضان
المبدعين والمبتكرين الذين يمتلكون مقوِّمات الاستخدام السليم والأمثل للذكاء الاصطناعي في مجالات علوم الفضاء،
والطاقة، والمياه، والصحة، وتقنيات المعلومات، والاتصالات، وهندسة البيانات.
عالم الذكاء الاصطناعي بات أحدَ أهمِّ محدّدات تحقيق أهداف علم الاقتصاد، بما يعنيه ذلك من الاستغلال الأمثل
للموارد المتاحة لتحقيق أعظم قدر ممكن من المنافع والعوائد للفاعلين الاقتصاديين، منتجين ومستهلكين وحكومات.
فاليوم تشير الداراسات إلى أنَّ الذكاء الاصطناعي سبيل لتحقيق منافع اقتصادية عدة لمكوِّنات الاقتصاد الثلاثة، بيد
أنَّ أهم المنافع والعوائد تتمثَّل في دور الذكاء الاصطناعي وقدرته على تحسين مستوى إنتاجية وتطوير كفاءة
عناصر الإنتاج، من تنظيم، وعمل، ورأس مال مادي، وأرض بمكنواتها المعدنية، والزراعية والعضوية.
وما يعنيه ذلك من رفع لمستوى مهارات الإنتاج السلعي والخدمي، وتسهيل مهمة صنّاع القرار، وتطوير قدراتها في
ترشيد القرار وتحسين حاكميته.
والذكاء الاصطناعي، بحسب الدراسات العالمية، سبيل حيوي لرفع مستوى رضى المستهلك وسعادته، بل ومستوى
خياراته في الشراء والاستهلاك. ومن جهة أخرى فقد بات من الواضح أنَّ الذكاء الاصطناعي يسهم في تحسين
مستوى الخدمات الصحية، وكذلك مستوى الخدمات اللوجستية، في النقل، والتواصل، والتوصيل، والتفاعل العملي
الآني، السريع والرشيق، بين جانبي السوق، المستهلك والمُنتج، كما أنه وسيلة مهمَّة من وسائل رفع مستوى إدماج
الفئات المختلفة من المجتمع في مجالات العمل والإنتاج، وخاصة ما يتعلَّق بإدماج النساء في سوق العمل، بما يقدِّمه
من ممكنات للعمل عن بُعد، وما يتطلَّبه من مهارات يمكن للمرأة أن تمتلكها وتسهم من خلالها بالعمل والإنتاج بعيداً
عن تحديات الانتقال من المكان، أو الحاجة إلى الوجود المباشر في مكان العمل.
بل هو سبيل لإدماج الشباب، في سنٍ مُبكِّرة في سوق العمل والإنتاج، حتى قبل أن يُنهوا دراستهم الجامعية. ولعلَّ ما
يعزِّزذلك كله بعض الإحصاءات الحديثة التي تقول مثلاً إنَّ مساهمة مكوِّنات الذكاء الاصطناعي سوف تتجاوز
15% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي عام 2030،
أي إنَّ استخدمات الذكاء الاصطناعي في مجالات العمل والإنتاج المختلفة سوف تسهم بما يزيد على 15 تريليون
دولار بحلول عام 2030، كما تشير الإحصاءات إلى أنَّ الذكاء الاصطناعي سوف يعوِّض ما يزيد على 17% من
الوظائف التي ستختفي بفعل تطوُّرات الثورة الصناعية الرابعة بحلول عام 2025، أي إنَّ الذكاء الاصطناعي
سيساعد على خَلْقِ ما يقرب من 13 مليون وظيفة جديدة خلال العامين المقبلين، بحسب المنتدى الاقتصادي العالمي.
كما تشير بعض الدراسات إلى أنَّ الذكاء الاصطناعي سيساعد على رفع كفاءة وإنتاجية نحو 40% من القوى
العاملة في العالم خلال السنوات العشر المقبلة. أمّا في القطاع الصناعي، فإنَّ المتوقع أن يؤدي الذكاء الاصطناعي
إلى زيادة الإنتاجية الكلية في القطاع بنحو 30%، ما يعني تحسُّن مستوى القيمة المضافة المحلية بهذه النسبة أيضاً.
وتقدّر بعض الدراسات إلى أنَّ حجم الاستثمارات التي ستتم في مجالات الذكاء الاصطناعي خلال العام الحالي
2023 قد تلامس 100 مليار دولار أمريكي، وأنَّ الذكاء الاصطناعي سيسهم بنمو حقيقي في بعض الدول المتقدمة
بما يزيد على 1.2%، وهي نسبة تكاد تساوي أو تزيد على ما تحققه تلك الدول حالياً.
أمّا على المستوى الاستهلاكي، فإنَّ بعض الدراسات أشارت إلى أنَّ استخدامات الذكاء الاصطناعي أدَّت إلى زيادة
رضى المتعاملين بنحو 51%، وزيادة مستوى استقطاب المستهلكين والاحتفاظ بهم بنحو 49%.
ما يعني زيادة عوائد وأرباح الشركات التي توظِّف الذكاء الاصطناعي في مجالات خدمة العملاء والتواصل معهم.
وفي مجال قطاع الصحة والخدمات الصحية، فإنَّ الدراسات تشير إلى أنَّ استخدمات الذكاء الاصطناعي ستؤدي إلى
تحقيق استثمارات وقيمة مضافة تتجاوز 100 مليار دولار في عام 2025، ووفْرة تصل إلى نحو 150 مليار دور
في ذلك القطاع الحيوي بحلول عام 2026،.
وأخيراً وليس آخراً، فمن المتوقَّع أن يوفِّر الذكاء الاصطناعي زيادة تتجاوز 34% في إيرادات القطاع المالي، ويؤدي إلى فتح وظائف جديدة في القطاع تصل نسبتها نحو 14% عمَّا هو الوضع الحالي في القطاع. وفي الختام، فإنَّ التنافسية العالمية في المستقبل ستتمحور حول قدرات الدول على تبنّي أدوات الذكاء الاصطناعي في المحاور الاثني عشر لتلك التنافسية وخاصةً ما يتعلَّق بالمكوّنات الرئيسية لمحاور المؤسَّسية، وتقنيات المعلومات والاتصالات، والتعليم والمهارات، والصحة، وكفاءة سوق العمل، وديناميكية الأعمال، وسعة الابتكار، وهذا أيضاً ينطبق، بدرجة أقل، على محاور البنية التحتية، والاستقرار الاقتصادي، والنظام المالي، وحجم السوق.
بل يمكن القول إنَّ محور الاستقرار الاقتصادي وتنافسيته سيعتمد بشكل أساسي على قدرة الدول على تبنّي متطلبات الذكاء الاصطناعي في قطاعات الاقتصاد كافَّة؛ الصناعية، والزراعية والخدمية. وفي هذا السياق، تعدُّ دولة الإمارات، التي باتت تُنافس ضمن المراكز العشرة الأول في تقارير التنافسية العالمية، من أكثر دول العالم ريادة في مجال استخدامات الذكاء الاصطناعي، حيث أطلقت في عام 2017 استراتيجية خاصة للذكاء الاصطناعي واستخداماته في القطاعات الاقتصادية المختلفة، مستهدفة أن تتبوَّأ المركز الأول عالمياً في استثمار مجالات وسبل الذكاء الاصطناعي في القطاعات الحيوية، وأطلقت أيضاً العديد من المبادرات لاحتضان المبدعين والمفكرين والرياديين في مجالات الذكاء الاصطناعي، على مستوى العالم، وسعت إلى إيجاد مئة تطبيق واستخدام عالمي في مجالات الذكاء الاصطناعي خدمة لروّاد الأعمال، والمبدعين، والقادمين الجدَّد إلى سوق العمل، والطلبة والخريّجين، ما يعني تأهيل شريحة كبيرة من مستخدمي ومطورِّي برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي للانطلاق من منصات الدولة، ولتكون بذلك صاحبة السبق والريادة العالمية في مجالات تطوير استخدامات الذكاء الاصطناعي، وتسعى الحكومة إلى أن يكون الذكاء الاصطناعي ضمن ممكِّنات تنويع القاعدة الاقتصادية لدولة الإمارات، وبحيث تكون استخدامات الذكاء الاصطناعي ما يوازي خُمس الناتج المحلي الإجمالي للدولة بحلول عام 2025، أي ما يقرب من 118 مليار دولار أمريكي، وهو ما يجعلها الدولة الأولى في العالم في مجال دور الذكاء الاصطناعي في الناتج المحلي الإجمالي، حيث يتوقع أن يصل ذلك على مستوى العالم 15% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، في حين من المتوقَّع أن يتجاوز 20% في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي بذلك ستكون الدولة الأكثر تطوُّراً، العاصمة العالمية للذكاء الاصطناعي.
*أستاذ السياسات العامة المشارك
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية