بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
عقب الحرب العالمية الثانية اجتمعت الدول الرئيسة المنتصرة وحليفاتها في ولاية نيوهامشير في الولايات المتحدة الأمريكية، لتناول ما آل إليه الشأن الاقتصادي التنموي حول العالم عقب تلك الحقبة، والبحث في سبل معالجة ما خلَّفته الحرب من تدمير للقطاعات الاقتصادية في العديد من الدول، وللتعامل مع التشوُّهات النقدية والمالية التي نتجت وأثَّرت في العجوزات المالية والتجارية والاستقرار النقدي لدول العالم، وكانت النتيجة إنشاء ثلاث مؤسَّسات دولية؛ البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وصندوق النقد الدولي، ومؤسَّسة التجارة الدولية، والأخيرة لم ترَ النور وتحوَّلت إلى منظمة التجارة العالمية بعد ما يزيد على خمسين عاماً.
وقد تخصَّص البنك الدولي بقضايا القطاعات الاقتصادية وتمويل مشاريع إقالتها من عثرتها، وعودتها للعمل والإنتاج، وخاصة في مجال البنية التحتية المتعلقة بالطرق والصحة والتعليم والاتصالات. في حين تخصَّص صندوق النقد الدولي في معالجة تشوُّهات موازين المدفوعات، والموازنات العامة للدول، وتصويب آليات أسعار صرف العملات، وسبل الاستقرار النقدي عبر السياسة النقدية الكلية.
بيد أنَّ من المهم التأكيد على إنّ كلتا المؤسَّستين لا تعملان كمؤسَّسات غير ربحية، ولا تقدِّمان تسهيلاتٍ أو قروضاً مجانية بأيِّ شكلٍ من الأشكال. فحتى بعض المساعدات التي تقدِّمها تلك المؤسَّسات تأتي وفق مشروطية معينة والتزامات محددة ذات أثمان قد لا تكون نقدية بالضرورة، وإنما التزامات سياسية واجتماعية غير ملموسة.
الشاهد هنا أنَّ كلتا المؤسَّستين قام بدور محوري في توجُّهات التنمية العالمية، وسواءً اتفقنا مع سياساتها أم لا، فهي مؤسَّسات مؤثرة في الشأن الاقتصادي والاجتماعي العالمي، وهي جزء من نظام عالمي بدأ منذ العام 1946 وما زال يعمل حتى اليوم.
إلا أنَّ التوجُّهات العالمية والتجربة العملية تقول بأنَّ نظاماً عالمياً جديداً في حالة مخاض اليوم، بالرغم من أنَّ الأقطاب الحقيقيين لذلك النظام غير منظورين بشكل واضح اليوم، مع اعتبار أنَّ أمريكا والصين، ومن المحتمل روسيا أيضاً، من أقطاب النظام الجديد. وقد سعت الصين إلى مبادرتين مهمتين؛ إحداهما مبادرة الحزام والطريق، والثانية إنشاء البنك الآسيوي لاستثمارات البنية التحتية منذ نحو 10 أعوام، على نسق البنك الدولي للإنشاء والتعمير.
والسؤال المطروح عربياً هو: إلى متى ستبقى الاقتصادات العربية معتمِدة على إرهاصات ونتائج التطوُّرات العالمية، وخاصة الشأن المالي والنقدي؟ وإلى متى سيبقى العالم مستفيداً من خيراتها وفوائض أموالها دون أن يكون لها الدور الحقيقي في التوجيه واتخاذ القرار حول تلك الفوائض ودورها التنموي والاجتماعي وحتى في مجال القوة الناعمة سياسياً؟! الأزمات العالمية الأخيرة، وخاصة الحرب الروسية الأمريكية الأوروبية عبر أوكرانيا، أدَّت إلى فوائض نقدية كبيرة، بالرغم من أثرها السلبي في فرض واقع من الركود التضخُّمي، والأثر السلبي الكبير في العديد من دول المنطقة. فمنطقة الشرق الأوسط تصدِّر ما يزيد على 14 مليون برميل نفط يومياً؛ أي، بافتراض متوسط سعر 90 دولاراً للبرميل الواحد، فإنَّ حصيلة تلك الصادرات تصل إلى نحو 500 مليار دولار سنوياً، وبالرغم من حاجة العديد من الدول المصدرة للعوائد المتأتية من ذلك، فإنَّ هناك فوائض نقدية واضحة تبقى متاحة، ويتم استغلالها في الأسواق العالمية للسندات وضمن مشاريع الصناديق السيادية لدول المنطقة.
ومن هنا، يمكن اقتراح تخصيص 5% فقط من تلك العوائد السنوية، ولمدة لا تزيد على 10 سنوات، لتشكِّل وعاءً نقدياً استثمارياً متاحاً لغايات تمويل التنمية والتطوير والابتكار في دول المنطقة ككل، وفق أسس ومشروطيات لا تختلف عن تلك التي تطبِّقها المؤسَّسات الدولية.
ويمكن ترشيح كلٍّ من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، أو إحداهما إن رغبت في قيادة وتجسيد هذا الجهد عبر تأسيس بنك للشرق الأوسط للتنمية والابتكار، تشارك فيه كافة دول المنطقة وبنسب متفاوتة حسب قدراتها، وعلى نسق ما تمَّ في إنشاء البنك الدولي، والبنك الآسيوي، وبحيث تكون أهدافه الرئيسة متمثلة في محورين أساسيين تحتاجهما المنطقة بشكل كبيرة؛ الأول تمويل مشاريع التنمية الكبرى الناجعة والمجزية والمجدية في المنطقة، وفق معادلة شفّافة وحاكمية رشيدة عالية وعوائد مناسبة ومقبولة للطرفين.
أمّا المحور الثاني فيتمثّل في تمويل وتحفيز المشاريع الريادية الابتكارية الشبابية، ووفق معادلات تحفيزية استثمارية بالدرجة الأولى. ويتطلَّب ذلك الارتكاز إلى ثلاثة أطر محددة ومدروسة بعناية؛ الإطار الأول التركيز على تمويل مشاريع تنموية عربية محدَّدة تسعى إليها دول المنطقة شريطة دراسة تلك المشاريع بعناية، وتمويلها على أساس سحوبات مرحلية؛ أي الالتزام بمبلغ القرض، ولكن الموافقة على سحبه على دفعات تتعلَّق بتمويل مراحل متتالية واضحة الإنجاز، والتركيز بشكل أساسي على مشاريع تنموي إعمارية مدروسة بعناية، وخاصة في قطاعات التعليم والصحة والطاقة النظيفة والمياه والطرق، وتأهيل المناطق التنموية الاستثمارية، وضمن مشروطية تضمن السداد من جهة، وتحقِّق عوائد مقبولة معتدلة من جهة أخرى.
أمّا الإطار الثاني، فيتمثَّل في اعتماد سبل لتمويل مشاريع ضمن مفهوم الشراكة، أي دخول البنك، أو إحدى مؤسَّساته، شريكاً في مشروع عربي حيوي طويل الأمد، وخاصة في مجالات المياه، والطاقة، والبنية التحتية للطرق والاتصالات، والمشاريع الاستخراجية المُربحة التي تحتاج إلى تمويل أكثر من حاجتها إلى شريك استراتيجي، وهنا تأتي مثلاً مشاريع المعادن الثمينة والمعادن الحيوية. على أن يتمَّ التركيز على المشاريع ذات الأثر التنموي، والمجزية، وذات العوائد المستقبلية التصاعدية، ذلك أنَّ البنك ليس بنكاً للمساعدات، أو المِنَح.
ويمكن للبنك وضع سياسة تخارج Exit Policy من هذه المشاريع لا تقل عن 30 عاماً، يخرج بعدها من الاستثمار بإعطاء الدولة المعنية أولوية الحق في شراء حصته. وأخيراً وليس آخراً، يأتي إطار تمويل وحضانة المشاريع الصغيرة والمتوسطة الريادية الشبابية، وهي مشاريع ابتكارية للشباب ومن الجنسين، وذلك في ظل التركيبة السكانية للمنطقة والتي تتجاوز فيها شريحة الشباب ما نسبته 65% من السكان.
وهنا، فإنَّ البنك مطالب بمنتجات، أو مشتقات تمويلية، على شكل رأس المال المغامر الذي يدخل لتعزيز ودعم مشاريع واعدة، حتى في ظل حقيقة أنَّ نحو 10% منها فقط يحقِّق اختراقاً حقيقياً. ذلك أنَّ تلك النسبة، إن توافرت، ستؤدي إلى عوائد تصاعدية تغطِّي أيَّ تعثُّر فيما تبقّى من مشاريع أخرى، بل وتولِّد أموالاً إضافية كبيرة ستسهم في تمويل مشاريع أخرى ضمن سلسلة متوالية هندسية متسارعة، خاصة ما يتعلَّق من تلك المشاريع بقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في عالم الميتافيرس، والفضاء الافتراضي، والبيانات الكبرى، وإنترنت الأشياء. كما لا بدَّ للبنك من فتح حاضنات أعمال في الدول المؤهلة لمثل تلك المشاريع في المنطقة، وخاصة دول مثل مصر، والأردن، ولبنان، وسورية.
وهي دول خرجت وتخرج منها مشاريع ريادية متعددة بشكل سنوي، وقد يكون للبنك الفضل في تسريع نجاح تلك المشاريع بشكل حيوي. وأخيراً، من الضروري أن تنظر دول المنطقة إلى هذه المؤسَّسة، كبنك للتطوير والتنمية والريادة، وكمؤسَّسة إقراض وليس مؤسَّسة منح ومساعدات، كما يجب أن تكون قروضه على أسس موضوعية لا علاقة لها بنوع أو حجم أو زخم العلاقة بين دول المنطقة، وإضافة إلى ذلك لا بدَّ للبنك من إنشاء بعض المؤسَّسات المساندة، على غرار تجربة البنك الدول للإنشاء والتعمير، مثل مؤسَّسة لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ومؤسَّسة لضمان وحماية الاستثمارات، ومؤسَّسة لفض النزاعات الاستثمارية، ومؤسَّسة لدعم وحضانة المشاريع الشبابية والريادية، ومؤسَّسة للدراسات والأبحاث في المجالات التنموية الحيوية المطلوبة للمنطقة، وخاصة مجال الطاقة والمياه والزراعة والغذاء والدواء.
إقامة مثل هذه المؤسَّسة بجهد عربي قضية قابلة للتنفيذ؛ فالتمويل متوافر بشكل جيِّد في الدول التي يمكن أن تقوده، ومن المهم أن تشارك به دول المنطقة بنسبة وحصص متفاوتة، ويمكن أن تكون متواضعة في بعض الحالات.
ويجب أن يكون للبنك مجلس إدارة متخصِّص، ومجلس خبراء ومستشارون من المنطقة وخارجها، وأن يعتمد في مشاريعه ودراساته على خبرات إقليمية في المجال، وهي كثيرة ومتنوعة ولديها معرفة عالمية وإقليمية، فهناك العديد من الخبرات العربية التي عملت في المؤسَّسات الدولية، ويمكنها أن تقود هذا الجهد ومؤسَّساته وكافة تخصُّصات إداراته باقتدار وتميُّز. ولعلَّ الأمل يبقى في أن يخرج هذا الجهد إلى العيان في أقرب وقت ممكن.
أستاذ مشارك سياسات عامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية