د.رحيل محمد غرايبة
لا جدال حول ضرورة إعادة النظر في المناهج المدرسية، وضرورة المراجعة الدائمة في ضوء تطور المعرفة وتطور الخبرة البشرية، وفي ضوء التغيرات الهائلة التي تجتاح المنطقة التي تمتزج بموجة التطرف والعنف التي تضرب بقوة في أغلب الأقطار العربية، مما يقتضي الاستنفار من جميع الجهات المسؤولة والأطراف ذات العلاقة على الصعيد الرسمي، وعلى صعيد مؤسسات المجتمع المدني.
عملية الإصلاح المنشودة يجب أن ترتكز على رؤية مجتمعية موّحدة تحظى بالتوافق والمشاركة الواسعة، عبر إجراء حوارات واسعة ومعمقة وعقد مؤتمرات علمية متخصصة بالتعاون الوثيق بين وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي والجامعات الحكومية والأهلية، وكليات التربية وأصحاب الخبرة والاختصاص على مستوى الأردن وخارج الأردن.
نجاح عملية إصلاح المناهج تحتاج إلى روح التوافق والمشاركة، وليس إلى روح المناكفة وإثارة النعرات التقليدية السابقة المشبعة بنفس الإقصاء، وعدم قبول الرأي والرأي المخالف من جميع الاتجاهات الفكرية والسياسية، التي عانت منها البلاد العربية ردحاً من الزمان، والتي شكلت بيئة غير صحية أثرت تأثيراً بالغاً على المسيرة التربوية برمتها، وهيأت لاستنبات بذور العنف والتطرف.
يبالغ بعضهم إلى درجة كبيرة عندما يحمل المناهج المسؤولية عن ظهور الفكر الداعشي المدمر، ويبالغ بدرجة أشد عندما يتم التلميح أو التصريح إلى اتجاهات إسلامية بعينها أو بعض القيادات الإسلامية التي كان لها دور ما قبل خمسين عاماً، في قسم المناهج في وزارة التربية، فهذا كلام يفتقر إلى الدقة، ويحتاج إلى المراجعة لعدة أسباب نلمسها بوضوح في الواقع المعاش من خلال إنعام النظر بطريقة هادئة بعيداً عن الجدال النزق وغير الموضوعي.
تونس تعد أكثر دولة عربية طبقت العلمانية بصرامة، وأبعدت الدين عن الحياة السياسية والثقافية والتربوية، وعملت على إيجاد مناهج مدرسية تنسجم مع هذا التوجه، ولكن تشير الدراسات والاحصاءات الرقمية الحديثة إلى أن تونس تعد الدولة العربية الأولى بتصدير الشباب الملتحقين بداعش، كما أن مصر التي حاربت الحركة الإسلامية بعنف ساحق، وعملت على تطهير المناهج من الفكر الإسلامي، فقد كانت أول بيئة عربية تنتج ظاهرة التكفير للمجتمعات الإسلامية القائمة، وتصدر ظاهرة الخروج المسلّح على أنظمة الحكم، ونلحظ أن العراق وسوريا اللتين بقيتا تحت سيطرة الحكم العلماني لمدة نصف قرن هما أكثر مكانين أصبحا موطنين وحاضنتين لمنطلق ونواة الدولة الداعشية.
الأردن بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى، تعد نسبياً أفضل بيئة عربية من حيث الاعتدال والتسامح، ومن حيث القدرة على المواءمة بين التدين والحداثة، ولذلك نحن بحاجة إلى الترفق بالنقد، وعدم التعجل بإصدار الأحكام، وبحاجة إلى نظرة أكثر ميلاً للعلمية والموضوعية.
ظاهرة التطرف هي وليدة منظومة من المسارات المجتمعية، على الصعيد السياسي والاقتصادي والتربوي والتعليمي، ووليدة الطوفان الإعلامي الكاسح الذي أخذ يغزو عقول أبنائنا، ويصيغ وجدانهم ويبني ثقافتهم بغير إرادة منا، نتيجة التطور الهائل في عالم الإتصال وشبكات التواصل الاجتماعي؛ التي تعمل على انسياب القيم والأفكار والعلم والمعرفة بطرق سهلة وبلا حواجز.
مع ذلك لا ينكر أثر المناهج وأهميتها، ولا ينكر ضرورة إصلاح المناهج المدرسية وتنقيتها، ولكن ينبغي أن لا يكون هذا الإصلاح قائماً على الاستثمار في الوضع السياسي العربي القائم من أجل تسديد الحسابات، وجعلها فرصة للهجوم على تيار سياسي بعينه، أو من أجل الهجوم على الدين أحياناً و إبعاده عن الحياة؛ من قبل أطراف تملك خصومة مع الدين من حيث المبدأ، ولذلك يجب اتباع أسلوب البحث عن المساحة المشتركة بين المختلفين والمتحاورين لأنها كبيرة وواسعة وضرورة الوصول إلى تفاهمات معتمدة من المجتمع .