د.رحيل محمد غرايبة
سقوط تدمر بيد داعش مؤخراً، وقد سقطت الرمادي قبلها في الجبهة العراقية، ويترافق ذلك مع تقدم يحرزه أتباع التنظيم في ليبيا، مع ما يحدث في اليمن، يجعل المشهد الإقليمي العربي أكثر إثارة للقلق والخوف على مستقبل المنطقة برمتها، وأن هناك مؤشرات بالغة الخطورة و أكثر رعباً تختزنها الأيام المقبلة. منظر التدمير الهمجي في المدينة الأثرية يستثير كوامن وأشجان وهواجس مرعبة عديدة، ويطرق بوابة العقل العربي الجمعي بقوة، وينير لمعة بارقة على سجل الذاكرة الحضارية الممتد إلى أعماق الزمن الغابر، والمتصل ببعض بقايا الزمن الحاضر المهشم الحزين، الرابض على أطلال حواضر العرب البائدة. تدمر القابعة في عمق بادية الشام تبعد (243) كم عن دمشق (150) كم عن حمص شرقاً، على سفح جبل المنطار، تعد معبراً تاريخياً للقوافل منذ آلاف السنوات، وتشرف على حوض فيه نبع غزير شكل واحة خضراء واستراحة جميلة بين العراق والشام، ومحطة في غاية الأهمية تربط بين بلاد فارس والخليج العربي من الجنوب والشرق إلى شواطىء المتوسط و البلاد الأوروبية شمالا وغربا، وكانت المنطقة تحوي بحيرة عذبة في العصر الحجري القديم، وترتادها الطرائد التي تشكل قوتاً للإنسان القديم منذ 75 ألف عام، وقد عرفت بهذا الاسم في عهد الملك الآشوري الذي عاش في القرن الحادي عشر قبل الميلاد. تدمر عاصمة لإمارة عربية أصيلة شأنها شأن البتراء عاصمة الأنباط في الأردن ومدين وإرم والعلا وحضرموت في الجزيرة العربية، التي شهدت أعرق الحضارات العالمية، والتي شيدها العرب القدماء، وقد وصف القرآن بعضها بعدما أقسم بالفجر وليال عشر، (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ). وقد جاء الإسلام ليعيد بناء الأمة العربية من خلال تحملهم للرسالة الخاتمة، من أجل استئناف الدور الحضاري الإنساني النبيل الذي يقود البشرية نحو الحرية والأمن والعلم والفضيلة والتقدم. جاءت الجيوش الفاتحة للمنطقة من عمق الصحراء العربية بقيادة أبي عبيدة وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، ليعيدوا الوصل الحضاري المنقطع وبناء جسر متين بين الحضارات القديمة والحديثة؛ عبر منظومة فكرية حضارية إنسانية، ترفع شأن العلم وتوجه العقل، وتصون الكرامة الآدمية، وتبني منظومة القيم، ونشأت دول وممالك عربية متوالية، وما كتب التاريخ عنهم عبثاً أو تدميراً، أو تحطيماً لحجر، وبقيت على حالها عبر الخلافة الراشدة مروراً إلى بني أمية وبني العباس والايوبيين والمماليك وبني عثمان، ولم نجد أحداً عبر هذا التاريخ قد استل معوله لهدم أثر حضاري قديم، أو أنه أعلن الحرب على بقايا الأمم السابقة، وتركوها معلماً للعبرة والدرس . ما يجري في تدمر عرض سطحي لمرض خطير يهدد الأمة ويهدد مستقبل الأجيال ويكشف عمق المأساة التي تختزنها الحالة العربية المعاصرة، إذ إنها تميط اللثام عن الأزمة السياسية التي تعيشها الأنظمة العربية المهددة، وغير القادرة على فهم المرحلة ولا تملك رؤية ولا استراتيجية، وتتعامل مع الأحداث الجارية بعقم سياسي وسطحية فكرية قاتلة، كما أنها تميط اللثام عن البناء المعرفي الهش للأجيال العربية التائهة في صحراء العرب الخاوية، والمبتورة عن جذورها الحضارية ومنظومتها القيمية، كما أن الأحداث تكشف عن حجم الجريمة التخريبية في المناهج التربوية التي أنتجت تجمعات غاضبة وشرائح ناقمة عاجزة عن الامساك بفلسفة البناء والإعمار لأوطانها وشعوبها، ولا صلة لها بالواقع المحلي والإقليمي، وفقدت بوارق الأمل وأصبحت أمام جدار الاحباط واليأس وجهاً لوجه، وحملت فلسفة القتل والتخريب والتدمير والغضب والنقمة على ذاتها وغيرها، ومزجت ذلك بمفهوم أعوج مشوه للدين يخلو من الروح والدعوة ويفتقر الى التمدن والحضارة، إذ أسهمت الأنظمة بإيجادها وتغذيتها وإخراجها باصرار وتعمد واضح. إن الذهاب المتسرع لاستخدام العنف والقوة يؤشر على العجز الشامل عن المواجهة الحقيقية، وكذلك الذهاب لاستخدام المال في شراء الذمم والولاءات يؤشر على عمق الفشل في إعادة بناء الأمة القيمي والثقافي والمعرفي، واللجوء العاجز إلى فلسفة شراء الوقت وترحيل الأزمات وزيادة مخزون الألم، وانتظار ما هو أشد سوءاً وخطورة.