بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
في دراسة حديثة لأحد خبراء صندوق النقد الدولي بعنوان "تحتاج الحكومات إلى سياسة مالية رشيقة في ظل تصاعد أسعار الغذاء والنفط" أشار جيف كيرنز إلى مجموعة من الحقائق التي لا بدَّ لصنّاع القرار المالي في العالم أن يتنبهوا لها. منها، أنَّ العالم يواجه منذ الأزمة المالية العالمية 2008 العديد من التبعات السلبية والصدمات، ما يجعل الحاجة ملحة للانتباه إلى سياسات إدارة الدين العام والعجز المالي، وسياسات الاقتراض.
والحقيقة الأخرى، أنَّ تيّار التضخُّم الجامح سيشكِّل التحدي الأكبر للسياسات المالية، في ظل حاجة السياسة النقدية إلى أدوات انكماشية، عبر رفع أسعار الفائدة، بهدف تحقيق استقرار نقدي، وأنَّ ذلك سيحدث بالتوازي مع حاجتين في المالية العامة، هما الحاجة إلى ضبط الإنفاق العام، والحاجة إلى ديون عامة إضافية.
وفي ظل ذلك، فإنَّ الصورة في الدول المتقدمة تتجه نحو تخفيض العجز المالي، بالتحوُّل من سياسات الدعم المالي المباشر لجميع الفئات المُتأثرة بالوباء، إلى سياسات نوعية محددة ومستهدفة داعمة للتحوُّل الهيكلي وتحسين الأداء، بيد أنَّ الوضع في القارة الأوروبية يعتريه الكثير من عدم التأكد وعدم الاستقرار في ظل الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا.
أمّا في الدول منخفضة الدخل، فإنَّ الأوضاع لا تبشِّر بأي اتجاه إيجابي للعجز المالي، والمديونية، في ظلِّ استمرار الوقوع تحت تأثير الوباء، من جهة، والآثار السلبية للحرب الروسية، من جهة ثانية.
والنتيجة العالمية القائمة اليوم أنَّ دول العالم ترزح تحت وطأة تصاعد أسعار الوقود وأسعار الغذاء بوتيرة مستمرة وملموسة، وانعكاس ذلك على المالية العامة والاستقرار النقدي للدول. وتتجه معظم الحكومات نحو تخفيف وطأة ذلك بامتصاص بعض الأثر السلبي لزيادة الأسعار، عبر سياسات الدعم المباشر وغير المباشر، ما سيعني تفاقم الأوضاع المالية، أو العجز المالي، لمعظم دول العالم على مدى ما تبقَّى من العقد الحالي، وليس على المدى القصير فحسب.
ويشير السيد كيرنز في مقاله إلى أنَّ الوباء أدّى إلى انضمام ما يزيد على 70 مليون شخص حول العالم إلى طبقة الفقر المدقع. وينتهي الكاتب إلى مجموعة من التوصيات، التي أسماها استراتيجيات مالية عامة رشيقة، تتمحور حول التأكد، من جهة، أنَّ سياسات الدعم المالي ستذهب تحديداً للفئات المستهدفة، دون غيرها.
ومن جهة ثانية، تحتاج الدول التي تحقيق معدلات نمو، ولكنها أيضاً تواجه ضغوطاً تضخمية، ما يعني أن تبتعد تماماً عن سياسات التحويلات المباشرة والدعم النقدي. أمّا في الدول الناشئة، والدول ذات الدخل المنخفض، فإنَّ الرشاقة في السياسة المالية تتطلب وضع أولويات واضحة للإنفاق، وزيادة الإيرادات العامة، وذلك للمساعدة على تخفيض عبء التأثر بما يحدث في العالم من تقلبات مالية، وتبقى الحاجة قائمة إلى شبكات أمان اجتماعي مدروسة وفاعلة للمساعدة على تلك التوجهات. وفي الختام يشير كيرنز إلى أهمية العمل المشترك بين دول العالم لتجاوز الأزمة القائمة في مجال أسعار الطاقة والغذاء، وذلك للخروج الآمن من الأزمة القائمة.
الشاهد ممّا سبق أنَّ السياسات الدولية ما زالت تُركّز بشكل أساسي على سياسات ضبط، أو تخفيض النفقات، والبحث عن مصادر لزيادة الإيرادات العامة، وإلى اللجوء إلى التعاضد العالمي، عبر منصات المساعدات المالية، التي هي منصات للتبعية بمفاهيمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
بيد أنَّ رشاقة السياسة المالية، من وجهة نظري، تكمن في ثلاث سياسات يمكن إدراج عنواينها العامة هنا. أمّا العنوان الأول فيتمثل في ضرورة التوجُّه إلى إعداد الموازنات العامة في الأعوام القادمة عبر المنهج التنموي، وليس من خلال المنهج الحسابي القائمة على حساب نمو النفقات، ومن ثمَّ افتراض نمو الإيرادات العامة بما يحقِّق رقماً حسابياً محدداً للعجز المالي، غالباً ما لا يتحقق، بسبب العجز في تحقيق رقم الإيرادارت.
والعنوان الثاني لرشاقة المالية العامة، وهو مُعَزِّز للعنوان الأول، فيتمثَّل في البحث عن شراكات كبرى لتنفيذ مشروعات كبرى عبر التمويل المشترك، أو من خلال مبادلة الدين بالشراكات.
وهي سياسات ستعمل على ضرب عدة أهداف بأداة واحدة، فهي ستخفِّف الديون، وتخلق النمو، وتوجد الوظائف، وتدعم الاحتياطيات الأجنبية، وترفد الاقتصاد بمعدلات نمو كبرى. العنوان، أو المسار الثالث للرشاقة المالية العامة يتمثَّل في النزوع إلى ترشيد النفقات وليس تخفيضها، وهو ما يعني زيادة الإنفاق في الأولويات التنموية، وتخفيضه في أوجه الهدر المعروفة.
وهو عنوان يقوم أساساً على فكْر الهندسة المالية، وتوسيع التشاركية، وتوسيع قاعدة الإيرادات العامة، أكثر من التحوُّل نحو خنق الاقتصاد بسياسات مالية انكماشية عقيمة، أو الاعتماد على الغرامات الإضافية وتسقط الأخطاء للقطاع الخاص لرفع تحصيل الإيرادات العامة، أو حتى زيادة الإيرادات العامة عبر المنح الخارجية والقروض المُيسّرة أو غير المُيسّرة. حاجة الدول إلى سياسة مالية رشيقة باتت فريضة تحتمها الظروف الداخلية والإقليمية والعالمية لدول العالم أجمع، وليس للدول الناشئة أو النامية فقط.
أستاذ مشارك سياسات عامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية