رمضان الرواشدة
عشرون عاماً، مرت على رحيل المفكر والروائي العربي الأردني الكبير مؤنس الرزاز، الذي ما زال حاضراً بقوة رغم الغياب في قلوب أصدقائه ومحبيه وقرّاء إبداعاته ورواياته وقصصه.
شكّل، مؤنس، حالة فريدة في الكتابة فهو موسوعي الثقافة متعدد المواهب من كتابة القصة والرواية والرسم التشكيلي وترجمة الأعمال الأدبية الأجنبية.
ولأسباب لها علاقة بإيمانه الشديد بالحرية ورفض القوالب الجامدة التي تقيّد الكاتب والمثقف استقال من رئاسة الحزب العربي الديمقراطي، الذي ساهم بتأسيسه في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كما استقال من رئاسة رابطة الكتّاب الأردنيين رغم إجماع كلّ تيّاراتها عليه.
تعرفت على مؤنس في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وامتدت أواصر العلاقة، إذ كنا نلتقي في مكتبه بوزارة الثقافة الذي كان صالوناً ثقافياً يومياً وفي زوايا جريدة الرأي. وعندما استقال مؤنس من الحزب والرابطة وتفرّغ كليا للكتابة، كان له «خلوة» مسائية مع مجموعة من الأصدقاء والكتّاب في اللويبدة أطلقَ عليهم اسم (حزب السابقين)، فهم حزبيون تركوا أحزابهم الشيوعية واليسارية والبعثية والناصرية بسبب مرارة التجربة، وقد انضممت لهذه «العصبة»، لفترات متقطعة، بسبب انشغالاتي في العمل الصحفي.
لا يمكن فهم وقراءة أعمال مؤنس دون سبر روحه وتكوين شخصيته «المتشظية» والتي كانت انعكاساً لمأساة والده «منيف»، القيادي القومي الكبير وعائلته، خاصة غدر الرفاق به.. وهو ما انعكس، أيضاً، على بنية التفكيك والسرد الروائي غير المقولب والقصّ الحكائي والإنثيالات في رواياته التي كانت مزيجاً من «الشظايا والفسيفساء» بعيداً عن الرواية التقليدية والمُنمطة.
ألقت مأساة عائلته بظلال، دامت طويلاً، حتى وفاته بطريقة قاسية وخلّفت جراحاً عميقة في نفسيته وحياته وأعماله. فالرزاز» الأب»، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي،هرب من سوريا إثر انقلاب شباط 1966 والحُكم عليه بالإعدام من رفاقه.
وفي بغداد، حيث لجأ إلى رفاقه في الحزب الحاكم، لم يتحملوا نقده وكتاباته، فوضع، وعائلته، رهن الاعتقال المنزلي حتى عام 1984 حيث مات مسموماً، ودُفن في عمان، بناءً على وصيته.
زار الملك الراحل الحسين، طيب الله ثراه، بغداد في بداية الثمانينات طالباً من صدام حسين إطلاق سراح «منيف» وإعادته لعمان، ولكن صدام رفض خوفاً من استمراره بالكتابة عن «التجربة المرّة والأمّر» لحكم البعث في العراق.
هذه المأساة عَبّر عنها مؤنس في رواياته خاصة «أحياء في البحر الميت» و«اعترافات كاتم صوت» و«متاهة الأعراب في ناطحات السراب»، وظل مسكوناً بفجيعة غدر الرفاق البعثيين بأبيه.
مؤنس، بطبيعته المثالية الحالمة، وروحه الشفّافة حدّ الانكسار، عاش قلقاً، غريباً، مغترباً، بعد أن هزته مأساة عائلته وسقوط مشروع الحلم القومي العربي، وتآمر الرفاق على بعضهم، وعلى شعبهم، حدّ القتل والاغتيال ونصب المشانق.
رغم الغياب ورغم قسوة الموت وطريقته الفاجعة، لا يزال مؤنس حاضراً بقوة، وما زالت أعماله الإبداعية والفكرية وسيرته، تُنشر بطبعات جديدة كل فترة بسبب الإقبال الكبير عليها.
وأقول لروحه الأبدية السلام: مازلنا، وما زالت الأمة العربية، يا مؤنس، كما صوّرتهم في روايتك.. «أحياء في البحر الميت»..