محمد حسن التل
منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهو تاريخ التجربة الجزائرية ومحاولة الإخوان المسلمين الوصول إلى الحكم هناك عبر صناديق الاقتراع، وحدث ما حدث من حرب أهلية أطاحت بكل شيء في الجزائر وسالت الدماء، منذ ذلك التاريخ وحركة الإخوان تعيد الكرة بعد الكرة في كثير من الدول العربية لإنجاح التجربة والوصول إلى سدة الحكم في هذه الدول، والواقع التاريخي يشير إلى أن الإخوان المسلمين منذ أربعينيات القرن العشرين انحرفوا عن العمل الدعوي والتربوي "ميثاقهم الأساسي" إلى السياسة، وفي كثير من الحالات والأوقات حملوا السلاح في وجوه خصومهم، كما حدث في مصر وسوريا وغيرهما، وهنا وقعوا في الخطأ التاريخي؛ حيث غيروا وجه حركتهم إلى سياسية بالكامل مبتعدين بشكل كبير عن الدعوة والتربية التي أنشأ حسن البنا الحركة من أجلهما كما جاء في أدبياته، وترجم ذلك في سلوكه في سنوات التأسيس الأولى، ومن الممكن أن الرجل قد انبهر في أعداد أتباعه حيث قاربوا مئات الآلاف في الأربعينيات في مصر -كما تقول وثائق الإخوان أنفسهم- فغره ذلك إلى التوجه للعمل السياسي والوصول إلى السلطة من خلال البرلمان، طريق الإخوان المختصر إلى ما يطمحون إليه من مراكز السلطة.
هم يقولون إن وصولهم إلى السلطة يفتح أمامهم الطريق الواسع نحو ممارستهم الدعوة والتربية للأجيال، مع أن فكرهم يقول إن الإصلاح يبدأ من قاعدة الهرم وصولًا إلى رأسه، ولم يذكروا قصة السلطة أبدًا، عكس حزب التحرير تماما الذي يتهم الإخوان على مدار التاريخ بسلوكهم، وهذا يأتي الحديث عنه في مقام آخر غير هذا المقام.
حاول الشيخ حسن البنا شخصيا دخول مجلس الشعب المصري، لكنه فشل في ذلك، وحينها اتهم الإخوان أحمد ماهر رئيس الوزراء المصري بالتزوير، وقاموا باغتياله من خلال التنظيم الخاص الذي يعتبر كثير من عقلاء الإخوان الذين خرجوا من الحركة أن هذا التنظيم كان سببا في عداء الناس للإخوان. ثم اصطدموا مع النقراشي بعد أن قام بحل الجماعة نتيجة التصعيد الدموي الذي قام به التنظيم الخاص في مصر، فلقي الرجل نفس ما لقاه أحمد ماهر، في نفس الوقت الذي كان الملك في مصر يتخلى عن الجماعة، حيث كانوا حلفاءه على مدار سنين طويلة، لأنه اكتشف أن طموحهم السياسي يتجاوز بكثير موضوع الدعوة والتربية، خصوصا بعد أن شاعت في مصر قصة التنظيم الخاص ومسؤوليته عن التفجيرات التي اجتاحت القاهرة، حتى حينما غاب البنا استمر الإخوان بالسعي للوصول إلى السلطة في مصر، واصطدموا مع عبد الناصر رغم أنهم كانوا في البداية حلفاء له، وحدث ما حدث بينهم وبين الرجل إلى أن وصلت الأمور إلى صدام دموي.
في نفس السياق، كانت فروع حركة الإخوان في العالم العربي تسير بنفس الاتجاه في محاولة الوصول إلى الحكم من خلال المواجهة المسلحة كما حدث في سوريا عام 1982، وحصل ما حصل وقد اعترفت كثير من قيادات الإخوان هناك أن الحركة أو التنظيم أخطأ عندما قرر خوض مغامرة مسلحة مع الدولة السورية.
في الأردن، كان الإخوان أكثر ذكاء من غيرهم، حيث تماشوا مع سياسة الدولة إلى حد كبير، مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة الدولة الأردنية، حيث ابتعدت تاريخيا عن الصدام مع أي طرف سياسي بما فيهم الإخوان، إلا أن الإخوان استطاعوا أن يكونوا الأقرب لمسيرة الدولة، خصوصا بعد أحداث الخمسينيات، وهم يعترفون بذلك، وبالذات عندما يرون أنفسهم في ضائقة سياسية يرددون بأنهم قاموا بحماية الدولة في تلك الأحداث مع مبالغتهم في ذلك، وقد استطاعوا الوصول إلى البرلمان بشكل واضح وقوي عام 1989 وشاركوا بالحكومة لكن التجربة لم تنجح، بسبب تغير ظروف المنطقة والإقليم أولًا، ثم عدم استطاعة الإخوان أنفسهم البناء على هذه التجربة إلى حد بعيد والاستفادة منها.
في دول كثيرة، لم يستطع الإخوان ممارسة السياسة تحت اسم الجماعة المباشر بشكل واضح، مما اضطرهم إلى العمل تحت مسميات متعددة أبرزها حركة النهضة التونسية وحزب العدالة والتنمية في تركيا وبلدان أخرى حيث مارسوا هوايتهم في السياسة فيها تحت أسماء متنوعة.
كانت كتابة هذه السطور واجب للحديث عن ظروف الإخوان والمنطقة العربية في هذا العصر، واتهامهم أنهم لعبوا دورا بارزا وأساسيا في إجهاض ما سمي بالربيع العربي، من خلال انقضاضهم على كل إنجازات الشعوب وسيطرتهم الكاملة على مفاصل دول كثيرة ثارت شعوبها في وجه الأنظمة هناك وأسقطتها، وأبرز تجربة كانت في مصر حيث أصر الإخوان على السيطرة التامة على مفاصل الدولة المصرية بداية من مجلس الشعب مرورا بالحكومة وصولا إلى رئاسة الجمهورية، الأمر الذي أدى بالنهاية إلى سقوطهم، حيث ضاق الناس هناك بهذا الواقع، ناهيك عن النخب السياسية المصرية التي أبعدها الإخوان عن كل مساحات الدولة المصرية، لأن الإخوان بطبعهم إقصائيون، لا يرضون شراكة غيرهم، ولا يثقون بغيرهم، ويصرون على أكل الكعكة وحدهم حيثما كانوا، وهذا ما حدث في مصر، كما أن التجربة أثبتت أنهم ليسوا خبراء في السياسية ولا في إدارة شؤون الدول على الرغم من أنهم في الحقيقة لديهم مفكرين كبار في مختلف شؤون الحياة، ولكن التنظير على الورق بعيد جدا عن الواقع، وهذا سبب رئيس في فشل تجاربهم في الحكم.
اليوم في تونس، آخر قلاع غنائم الإخوان من ثورات الربيع العربي، يواجهون مصيرا مشابها لما حدث لهم في دول عديدة، حيث لم يفهموا الدرس، وأصروا على السيطرة على مفاصل الدولة التونسية، ولم يسمحوا لأحد بمشاركتهم، وإن عقدوا أحلافا مع الكثيرين، ولكن سرعان ما انفرط عقدها نتيجة حبهم للسيطرة على رأي الغير، وأنهم وحدهم يملكون الحقيقة، وهناك شهادات كثيرة من قيادات إخوانية كبيرة خرجت من التنظيم لممارسة التفكير بحرية في الهواء الطلق وممارسة العمل السياسي حسب الواقع وبمشاركة الآخرين.
وهم كذلك اليوم في ليبيا يعطلون الحوار الوطني لإقرار الدستور إذ يصرون على النظام البرلماني حيث يختار مجلس النواب رئيس الدولة، وليس الشعب مباشرة. وواضح جدا سبب إصرارهم على هذا، مع العلم أن كل القوى السياسية الليبية تريد إقرار النظام الرئاسي.
ولو عدنا إلى الحديث عن قوة الإخوان في الشارع العربي، سيكون واضحا وجليا أن قوتهم تكمن عند الشرائح الفقيرة والبسيطة في التفكير، حيث تنفذ الجماعة إلى هؤلاء من خلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة، في ظل غياب تام للحكومات والتيارات السياسية الأخرى عن هذا الواقع، فتفوز الجماعة بهم وبأصواتهم في أي انتخابات، مع الأخذ بعين الاعتبار العاطفة الدينية الراسخة والقوية عند الناس؛ إذ يقدم الإخوان أنفسهم للناس على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية منقذين من خلال وصولهم إلى السلطة.
الجماعة اليوم يجب أن تحدد موقفا، إما أنها تيار سياسي، أو حركة دعوية تربوية، فلم يعد هناك أي مجال للخلط بين الأمرين، فقد انكشفت اللعبة أمام الناس، وهذا يشير إليه بوضوح تراجعهم في الشارع العربي، بعد أن كانوا مسيطرين على نتائج أي انتخابات جرت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. الجماعة تعاني اليوم من نفس ما تعاني منه المجتمعات العربية وخاصة القطاعات السياسية من أمراض، حيث تواجه انقلابات وانقسامات داخلية واتهامات أتباعها بعضهم لبعض وكثيرا ما تعاني من انشقاقات، وما حدث في الأردن في السنوات الماضية ليس ببعيد، إذ أصبحت الجماعة جماعتين تقابلتا في ساحات القضاء خصمين شرسين، كما انشق من داخلهم أعضاء كثيرون بارزون أسسوا أحزابًا مستقلة عن الجماعة، وهذا يعود سببه إلى روح جديدة سرت في الجماعة ترفض مفهوم الطاعة العمياء للقيادة، حيث لم يعد هذا الواقع يتوازن مع ظروف العصر وحركة المجتمعات وسعة الآفاق عند الجميع، حتى عند الكثير من الأعضاء والقيادات الإخوانية التي عبرت عن ضيقها بهذا الواقع، أو بالأحرى الانشقاق عنها.
لا مفر أمام الإخوان إلا أن يتخلوا عن صفة الجماعة الدينية وممارستهم للعمل السياسي وأن يقبلوا بشروط اللعبة السياسية ومشاركة القوى الأخرى في ساحات العمل السياسي في كل ساحات الوطن العربي.
في الحقيقة وللإنصاف، إن هذه الأمراض التي أصابت الجماعة أصابت معظم الأحزاب العربية، حتى تلك التي وصلت إلى السلطة، ولكن التركيز على الإخوان يأتي من كونهم يشكلون التنظيم الأكبر أينما كانوا في كثير من الدول العربية، وهم الأكثر وجودا في الشارع. والسؤال الكبير المفتوح، هل الإخوان متهمون في محاولة السيطرة على الشعوب ومقاليد السلطة في العالم العربي، وبالتالي كانوا سببا في إسالة الدماء في دول متعددة، وكانوا عقبة أمام ديمقراطية حقيقية تتمناها الشعوب العربية؟! وهل الإخوان جزء من لعبة كثير من الأنظمة ومتحالفة معها بألا تتحقق أمنية الديمقراطية وبالتالي يعطلون كل تقدم نحو هذا الهدف؟! أم أنهم ضحية تآمر داخلي ودولي لتشويه صورتهم ومنعهم من المشاركة في دائرة صنع القرار في الدول العربية، وأنهم أصحاب نوايا حسنة في محاولة إيجاد ديمقراطية حقيقية في الجغرافيا العربية كما يقولون ذلك؟!
أعتقد ان السؤال سيظل مفتوحا حتى يحكم التاريخ على هذه الحركة التي أثارت وما زالت تثير جدلا كبيرا في ساحات السياسة العربية والدولية نتيجة مسيرتها المعقدة والمتناقضة في أحيان كثيرة وإن كان كثير من الناس قد حكموا عليها منذ زمن...