جهاد المومني
مؤسف بالفعل الا تكون الرواية الرسمية للاحداث هي الاكثر دقة وصدقاً ولا تهزمها الاشاعات والاكاذيب حتى تلك التي لا يصدقها عقل، والاكثر اسفاً ان تلتزم الجهات الرسمية الصمت ازاء اشاعات تهدد مصداقية الدولة بكاملها، ومع ذلك لا تحظى باكتراث من يعنيهم الامر للرد والتوضيح ونفي الاكاذيب، اما المضحك المبكي في هذه المعضلة العجيبة ان النشطاء يتداولون عن طيب خاطر وبمنتهى الجرأة خبراً صادماً وهم يعرفون تماماً انه مجرد اشاعة لا تمت للحقيقة بصلة، والسبب وراء هذه الجرأة والتطاول لا يخفى على احد وهو ان من يطلق الاشاعات يعلم ان احداً لن يرد ليكذّب روايته ولذلك يتجلى في تنميقها واطلاقها بكل ما فيها من ضغينة وحقد على كل ما هو رسمي او حكومي على وجه التحديد، وما ان يتم تداولها على نطاق واسع حتى تكون قد كبرت ككرة الثلج واصبحت فزاعة لها رأس ويدان وقدمان.
كيف يحدث ذلك، ولماذا لا تتحرك الحكومات والجهات المستهدفة للرد والتوضيح،ولماذا لا توضع الحقائق امام العامة ؟ كنت مرة قد كتبت في هذه المسألة وتلقيت جواباً خجلت من نشره في حينه واحتفظت به لنفسي رغم انني تلقيته من شخص مسؤول، لقد شعرت بالخجل نيابة عنه؛ اذ اجابني بأن (لا دخان بدون نار)، وكانت تلك اجابة تعني ان لكل اشاعة اساسها وما يحدث هو ان النشطاء انما يجعلون منها حكاية يجري تعميمها فقط، وهذا الاعتراف الصريح بان الاشاعات ليست في حقيقة الامر اشاعات وانما حقائق لكنها مشوهة او محرفة او منقوصة، يضعنا في الموقف الاضعف ويجرنا الى كارثة حقيقية على صعيد مصداقية الدولة، ورغم انني لست اصدق ان كل اشاعة لها اساس تستند اليه، وان قاعدة (لا دخان بدون نار) ليس هذا مكانها ابداً، الا أنني اشعر وكأن صمت الحكومات يضيف الى قصص الفساد طعماً خاصاً ليجعل منها قصصاً مستساغة عند عامة الناس بمن فيهم الأقرب الى تصديق الرواية الحكومية لو وجدت، ومع مرور الوقت وكثرة الاشاعات ومواصلة الجهات الرسمية التزامها الصمت فأن ما يتم تداوله على منصات التواصل الاجتماعي اصبح من المسلمات حتى نحن الذين نرى الصورة بكاملها صرنا نشكك في قدراتنا على فهم ما يجري واصبحنا نميل الى تصديق ما ينشر ويقال.
يقول الناس ان الحكومات لا ترد؛ لان كل ما يقال صحيح حتى تلك الاشاعات التي تفندها الحكومات احياناً هي ليست اشاعات وانما حقائق ولذلك تتجاهل الحكومات توضيح معظمها على قاعدة (الناس بتنسى)، لكن الناس لا تنسى بل تتصيد القرار والخطاب الرسميين وكل ما هو رسمي عند كل هفوة، وعلى النقيض من المنطق فان الحكومات غالباً ما تشحذ همتها لتوضيح وتفنيد اشاعات هي في الواقع حقائق يعرفها القاصي والداني بينما تغض الطرف عن الاكاذيب التي يتم تداولها عبر فيديوهات ومنشورات لا تمر مرورالسحاب مثل المناسبات السعيدة ومنشورات المجاملات وتهاني اعياد الميلاد، بل يعاد نشرها ويستمر تداولها لايام واسابيع واشهر وتخزن في ذاكرة الاردنيين لاعادة التذكير بها ثم ارشفتها على انها حقائق تضاف الى تاريخ البلد، ومع ذلك لا حياة لمن تنادي وكأن الجهات الرسمية تصم آذانها وتغمض عيونها؛ لانها تريد للناس ان يتسلوا بقصص الفساد ويلوكوها ما داموا لا يعملون وليس بين ايديهم من مهنة او وظيفة غير تعاطي النشر بواسطة هواتفهم الخلوية، او انها تعتقد ان الاعلام الاجتماعي اصبح متنفساً للاحتجاج الكلامي الذي يبقى مقبولاً حتى لو تجاوز الخطوط الحمراء واساء للدولة ومقوماتها، فما دام الاحتجاج في اطار الكلام اذن يمكن تجاهله، وهذا خطأ شنيع تقع فيه الحكومات؛ لان الكلام نافلة الفعل.
لقد اوصلنا السكوت وعدم المبالاة الى حالة من البلادة ليس فقط على مستوى المسؤولية واصحاب القرار، وانما على مستوى الجمهور، فمن يشتم الحكومة والمؤسسات الرسمية والمسؤولين ويطلق كذبة يحظى بالاف التعليقات واشارات الاعجاب بشجاعته، ومن يقول الحقيقة حتى لو لم يمتدح احداً يتعرض للتنمر ويسمى سحيجاً ولا يجد من يؤازره في مواجهة موجة الكراهية التي تلاحقه، ومع ذلك ثمة ادعاء بأن الدولة تطلق الذباب الالكتروني للتشويش على طويلي الالسن ومؤلفي الاشاعات، ولكن اين هو الذباب الالكتروني اذا كان من يفزع للجهات الرسمية يتعرض لبطش اصحاب الصوت العالي ولا يجد من يقف الى جانبه ولو بتعليق منصف.
قلة قليلة من المسؤولين ينتفضون غضباً على اشاعة تطعن الاردن في خاصرته ويتم تداولها، والبقية تمارس البلادة واللامبالاة وكأنهم ضيوف في مواقعهم، لكن هؤلاء مستعدون لخوض معركة كبرى اذا مستهم الاشاعة بشكل شخصي في رواتبهم ومكتسباتهم الوظيفية، عندئذ سيقاضون المسيء وسيلاحقونه ويطالبون بتعويضات مالية عن ما لحق بهم من ضرر معنوي، اما اذا اقتصرت الطعنة والاهانة على البلد فهم اذن غير معنيين بها، ما يعنيهم راتب نهاية الشهر والمكافآت والامتيازات الوظيفية، واغرب ما في الامر ان هذا الصنف من المسؤولين ينال من المنافع والامتيازات الكثير حتى أصبحت حكاية المسؤول الساكت وحظوظه الوفيرة تتردد كما الاشاعة تماماً، فمن يكسب الرهان اليوم نماذج من الاردنيين ليس من بينهم الغيورون على سمعة البلد ومصالحه، انهم نموذج المسؤول صاحب مقولة (لا دخان بدون نار)..!