د. محمد طالب عبيدات
جاءت نتائج الثانوية العامة لهذا العام مختلفة تماماً عمّا مضى في العشر سنوات الأخيرة، وبالطبع النتائج كانت كمحصلة لجملة الإجراءات التصحيحية والتصويبية التي وضعتها وزارة التربية والتعليم ووزيرها معالي الأخ الفاضل الدكتور محمد ذنيبات، فكانت النتائج أقرب للواقعية وتعكس المستويات شبه الحقيقية للطلبة سواء في نسب نجاحها أو معدّلاتها التي لم تعُد فلكية البتّة، كمؤشر على ضبط الوزارة للمقاييس الرئيسة لوضع العلامات في ميزان العدالة دون شطط أو غش أو تضخيم أو تلاعب أو تجميل، فلم نعُد نر أعداد طلبة ذوي معدلات فلكية لا بالنسبة المئوية ولا بأعداد الطلبة – وهنا نتحدث عن السواد الأعظم للطلبة لا النخب منهم-، وكأني أجزم بأن الواقعية هي القراءة الأولى في هذه النتائج.
وأمّا نسب النجاح التي جاءت مخيبة للآمال بالرغم من واقعيتها –لأن الحقيقة تصدم غالباً-، وبالطبع لم تكن بالمفاجئة بالنسبة لي شخصياً كأكاديمي يتعامل مع الطلبة الجامعيين يومياً ويدرك المستويات الحقيقية لهم وخصوصاً في قضايا التفكير الإبداعي والتفكير الناقد الذي هو شبه معدوم لدى معظمهم. فنسب النجاح التي كانت بعموميتها حوالي الأربعين بالمائة والفرع العلمي الأذكى كعادته بنسبة ستين بالمائة ولم تتجاوز العشرين بالمائة لبقية الفروع، كلها تؤشر لضعف الطلبة بوجه عام وفق معادلة رفع مستوى أسئلة الإمتحان وضبط إجراءات الإمتحان لتنعكس على مخرجات ونتائج ذات نسب ومعدلات منخفضة، وبالطبع هذا نتاج تراكمي لعملية تعليمية تبدأ من الروضة فالمدرسة والتي تحتاج لإعادة إصلاح تربوي جذري للتركيز على الفهم وحل المشاكل والإبداع لا الصمّ والحفظ.
واضح أن أفرع الثانوية العامة عدا العلمي والأدبي مُكرهين على دخولها، والدليل على ذلك نتائجها ونسب نجاحها، فلم أفهم كيف لطالب بالشرعي أن يكون خطيباً في المسجد يوماً ما أو مفتياً أو واعظاً وهو في هذا الحال من التحصيل الدراسي! وهكذا بالنسبة لبقية الفروع، وبالطبع فإنني أتفهّم البعد الآخر للعملية التربوية وهو ثقافتنا المجتمعية التي لا تقبل التعليم التقني ولا التعليم المهني بالرغم من كل الإستراتيجيات التي نادت بها كل الحكومات المتعاقبة لحل مشكلة هرمنا التعليمي المقلوب، ولهذا فإننا أمام مُعضلة ليست بالسهلة وتحديات تعليمية جسام، أهمها أن واقع النتائج يقول نعم لإلغاء فروع الثانوية العامة كلها بإستثناء العلمي، وبالمقابل واقع سوق العمل يقول لنبقي على كل هذه الفروع لغايات تجسير النظرة للتعليم التقني والإنخراط به، وأمام هذين الطرحين ضاع الطلبة بين مدّ أهليهم وجزر إستراتيجيات التعليم العام والعالي.
والنتائج تُظهر أن جُلّ الطلبة الناجحين وبمعدلات فوق الحدود الدنيا للقبول سيتم قبولهم بالجامعات الرسمية، ببساطة لأن مَنْ معدلاتهم فوق 65% هم أقلّ عدداً من الذين طلبتهم الجامعات الرسمية لتخصصاتها وبرامجها وبفارق حوالي عشرة آلاف طالب، وهذا بالطبع يدخلنا في نفق مُظلم آخر ألا وهو مدخولات الرسوم الجامعية للجامعات الرسمية والخاصة والتي هي أساس موازناتها، فالبرنامج الموازي سيتأثر كثيراً في الجامعات الرسمية وستقل المدخولات المالية للجامعات وبالطبع ستحتاج لدعم حكومي أكثر للوقوف على إستكمال مسيرتها وتطلعاتها.
أمّا الجامعات الخاصة فوقع النتائج عليها كان كالزلزال المدمّر والصدمة بالنسبة لمدخولاتهم وموازناتهم المالية، فأعداد الطلبة الذين يحق لهم الدخول وفق معدلات القبول ممن هم بين الستين والخمسة والستين لا يتجازز الألف والنيّف للجامعات كافة، ولن يتبقّى لهم طلبة ممن معدلاتهم فوق الخمس والستين والذين سيذهبون حتماً للجامعات الرسمية لتفضيلهم لها لجودة التعليم وإنخفاض الرسوم الجامعية، وهاذين البعدين هما عاملا جذب للجامعات الرسمية، مما يعني أن الجامعات الخاصة ستتأثّر كثيراً من هذا الأمر، والأجدر بالحكومة التفكير بالعملية من أبعاد أخرى مثل تخفيض الحدود الدنيا للقبول لتصل إلى خمسة وخمسين أو أن تضع الجامعات الخاصة أمام مسؤولياتها لتجويد تعليمها أكثر بما ينافس الجامعات الرسمية، وهذا الطرح أيضاً سيضعنا في زاوية جديدة محصورة هي إنخفاض مستوى الطلبة والبعد عن حاجات سوق العمل في التّوجّهين التقني والمهني، وهذه المعضلة بالطبع تعيدنا للمربع الأول قبل عقدين من الزمان عندما تم إنشاء الجامعات الخاصة والأهداف منها وتطلعاتها، وكأني أقول بأن نتائج التوجيهي تحتاج لقليل من التجميل لإيجاد «زبائن» من الطلبة للجامعات الخاصة ودعماً لسوق العمل فيها والذي يُشغّل عدداً لا بأس به من الأردنيين، بالرغم من أنني شخصياً ضد هذا التوجّه.
بصراحة مُطلقة هنالك غياب بالتنسيق والتكاملية بين وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي بما يخص نتائج التوجيهي، وهذا وضعنا أمام معضلات لا يُحمد عقباها، وكان الأجدر بالحكومة التنيسق المُسبق على الأقل لوضع سياسات عملية وقابلة للتطبيق في هذا الصدد لأن مُخرجات الثانوية العامة هي مُدخلات للتعليم العالي، وكأنّي أؤشّر هنا لضرورة العودة للماضي ليكون وزير التربية والتعليم ووزير التعليم العالي هو ذات الشخص ليتولّى هذه المهمّة ولتكون العملية التربوية والأكاديمية برمّتها أنجح وأصوب وأكثر تنسيقاً. كما أنني أردف لضرورة إيجاد سياسات تربوية واقعية تتناسب ومستويات طلبتنا وحاجات سوق العمل المحلي والإقليمي، وفعلاً حان الوقت لضرورة إحداث ثورة إصلاحية بيضاء في منظومتي تعليمنا العام والعالي صوب الجودة والمواءمة لسوق العمل وحاجاتنا الوطنية، لأن إصلاح التعليم هو أساس الإصلاح الشامل