الشاهد -
بقلم د.سمير ايوب
في الكثير من المشاهد الفلسطينية، الرسمية المعاشة اليوم، كوابيسٌ واضغاثُ احلام، أطالت المسافات، وبَعُدت كثيرا فيما يبدو، عن طُهر البدايات، والنوايا والسلاح والممارسات. في هذا الزمن العجيب من الشقلبة النضالية، إشتقت قلقا، لكثيرٍ من عَبق الشهداء، كما كنت اشمه واتعطر به، في الايام الخوالي من الزمن الجميل. اشتقت لكثير مما غرسه اول الرصاص، في الوجدان الفردي والجمعي، ومما وقر في القلب وهو يشكل بامتياز، الكثير من تفاصيل الوعي الوطني والقومي، لكل من عانقه يوما، شوقُ الحياةِ من احرار العرب. منذ ايام، في الخامس عشر من ايار، حَملتني قدماي التي تُقاوِمُ باصرارٍ عَدّ السنين، الى احد المقرات، التي تتلطى ظُلما، تحت اسم " الثورة الفلسطينية " ، في مكان ما في المشرق العربي. (وبالمناسبة انا مواطن يسكن في عمان – الاردن). قبل ان ادلف بوابات ذاك المقرالعتيد، كنت قد عَبَرتُ قُطعانا من السيارات، العائدة لمجاميع الموظفين هناك. انتينات تلك السيارات الفارهة اللامعة، أسْرَتْ فورا، بعقلي وقلبي الى شواهد مقابر الشهداء، المودعة في رحم الارض العربية. ضيوفا يحتضنهم ترابها بحنان، بانتظار عودة مواكبهم مُكَرّمة الى فلسطين. دلفت المدخل الرئيس متباطئا ويدي على قلبي. جالت عيناي على اتساعها في الاركان، وانصتت اذناي مطولا لامواج من ضجيج الجعجعه وطنين الكيفما كان. ومع هذا، فلم اجد هناك، كثيرا مما ذهبتُ مشتاقا اليه. لم اجد ما إستشهد صَحْبي من اجله، وما جُرِح او اعتُقل خيرة المناضلات والمناضلين من اجله. بل تعثرت عيناي، بركام من الشعارات، تغتصب كقطعان المحتل، كثيرا من مساحات الجدران. بدلا من عيون البنادق، التي تواصل من خلف قضبان الاسر، قتالها مع العدو المحتل، بارادتها الصلدة وامعائها الخاوية، تلوث بصري هناك، بمُتخَمين متكرشين من اصحاب الرقاب الغليظة والقصيرة، والاوداج المنتفخة كضفادع المستنقعات، من شحم الموائد الدسمة وعسل الملكات والسم الهاري من الويسكي اللي ببلبعوه ليل نهار. توقعت ان اعايش هناك، الكثير من دفئٍ بَيِنٍ يُرحب بالمراجعين من اسر الشهداء والمعتقلين، المتعبين بحثا عن مستحقاتهم، التي دفعوا مُقدما حصتهم من مهر فلسطين، دم وارواح اغلى واشرف الناس لديهم. ولكني فُجِعتث بما رأيت، من طقوس القهر والتعذيب النفسي والمعنوي اين منها طقوس سفارتي امريكا والعدو الصهيوني في عمان. يثمَنونَهم بنذالة، يفرقون هناك بين شهيد وشهيد، وبين وجع ووجع، وبين وطن ووطن. يحكون بوقاحة هناك، عن من هم خمسة نجوم واصحاب ال VIP منهم، وكان غيرهم يا حسرة زُطٌ او غَجَرٌ او من اعراق متدنية. بدلا من عيون المشردين من اهلنا، على ارصفة المنافي القريبة والبعيدة، والمحاصَرين بسواقي ومستنقعات المجاري الاسنة، في ازقة وحواري المخيمات، واستغاثات من ابتلعتهم بلا رحمة، لثجَجُ البحار العاتية، تعثرت عيناي هناك، بكثير مما يذكرني بشئ من ترف دبي او قطر او الكويت او الرياض. وجدت اكواما ممن أجْلِسوا او عُرِجَ بهم، تجاوزا او تسللا، الى مسميات وظيفية طنانة رنانه، والى شرفات النياشين والاوسمة، والرتب العسكرية والقابها الشرفية. سلالم واسانسيرات الولاء والرضا، ودهاليز الدكاكين التنظيمية، جعلت من بعض ابطال الصدفة، عقداء وعمداء والوية ومارشالات. السيرة الذاتية الحقيقية لكثير منهم، تشي بأن ايا من اولئك، لم يطلق رصاصة واحدة في حياته، ولو على عصفور برئ عابر سبيل. ولم يخض الكثير منهم معركة واحدة، منتصرة او منهزمة امام اي مفردة في معسكر الاعداء. بالطبع وبالتأكيد، هناك الكثير الكثير، من الابطال الحقيقيين في النضال، من اجل تحرير فلسطين، يحملون تلك الرتب والمراتب، عن جدارة واستحقاق. مساراتهم في جبهات المواجهة بالنار، مع الذئاب الصهيونية، تشرف رتبهم والقابهم، ونياشينهم التي تزين اكتافهم وهاماتهم، من اجل كل فلسطين العربية. نعرفهم، ويعرفهم المناضلون وشعبهم العربي الفلسطيني، يعرفهم بالاسم: بيارق خفاقه. نحبهم، نحترمهم، وننحني تقديرا لكل ما يمثلون. بدل الجثث المشوهة، بالتفحيم او التقطيع او التجويع، في مخيم اليرموك حاليا، ومن قبل في مخيمات صبرا وشاتيلا وضبيه وتل الزعتر، مرورا بغزة العزة وجنين البطله، وغيرها الكثير، وجدت هناك، جوقات من لصوص المعبد، ينهبون في جيوبهم مرتبات فلكية، ومكرمات لشراء او استئجار، لفللهم وشققهم الفارهة، في احياء منتقاة بعناية، لتليق بحجم نهبهم، وأعطيات مخصصة لسياراتهم وهواتفهم ومرافقيهم، واقساطا لمدارس وجامعات ابنائهم (طبعا الارقى محليا دائما، أومبتعثين في بلاد الغرب من بلاد الفرنجه على الاغلب)، ناهيك عن كلف الاجنحة الملوكية او الخاصة جدا، في مستشفيات الدرجة الاولى، في سياحات علاجية، او لاجراء تحسينات وترميمات مظهرية، لاثداء المحظوظات من نسائهم، او شد تجاعيد الزمن، واخفاء تشققات بطون البعض منهن والارداف. قاتل الله السيلوليت. وطبعا الكثير من كل ذلك، يتم خارج الوطن العربي، للاكثر حظا وقدرة في تقنيات النهب والسلب والتعريط. هناك، لم اجد اشبال فلسطين من فتيات وفتيان، وحجارتهم القاصفة وكتبهم المتحدية. هناك، لم اجد الام الفلسطينية المتجذرة مع شجر الزيتون، الذي يحاول الذئاب اقتلاعها في ظل تواطئ رعيان اوسلو وايتامها. ولم اجد هناك، الحذاء الرمح الذي قصفت به تلك الجدة العجوز عنجهية مستوطن، ولم اجد عصا واصابع ذاك العجوز المشهرة كسيف خالد بن الوليد، تحاول اقتلاع عيون مغتصب مدجج بسلاح امريكي. وهناك، لم اسمع رعدا ثوريا، أوغضبا هادرا، بل رياحا اوسلوية عفنة، كرياح السموم. يحكون هناك، عن الرتب والمراتب والرواتب. عن المكاسب والمنافع والاعطيات. وجدت هناك الكثير من المحاصصين، والانقساميين، والمفتتين للاهداف وللصفوف وللجهود، والمنشدين مواويل الحمد والشكر لدكاكينهم وجغرافياتهم. هناك تَلَوّث سمعي وبصري، بمن يستقوي بتفاهات شيطانية، كاسباب واهية كافرة، لتكريس الاحتلال والاستقواء به، على الاخ والشريك وتدميره. يُضَيّقون الامل وآفاقه من اجل تحرير كل حبة تراب في فلسطين، بل يختصروه بالتزوير الى مجرد كرت زيارة للوطن. المتواطئون المتكئون ظلما وعالة كالعلق، على الموروث العظيم للشعب الفلسطيني ونضاله، ليسوا شيئا في المشهد الفلسطيني الشعبي الرائع. بل خدم في ثنايا خدم، يلبون بفتات الاجر واوهامهم احتياجات المشروع الصهيوني. أيها المؤقتون – العابرون بعبثية ممنهجة، في ضباب الوهم هناك، أقول لكم، كما يقول لطفي بشناق في وجعه: أنا مواطن، من هنا او من هناك، لا يهمني منكم، مَنْ، ومَنْ، ومَنْ ...... فلسطين فخرنا، أجمل واغلى واعظم من ان تكون مجرد غنيمة للصوص منكم، وشعبنا لا يخشى الفقر او الجوع. خذوا المكاسب والمناصب، بس خللونا الوطن. ولكن تذكروا جيدا: ان الحرية لن تكتسب بيد تتسول راية او وطنا او كرسيا، فلسطين من البحر الى النهر، من حق القبضات القوية الملوحة، بتناغم مع احلام اهلها واشواقهم بوطن حر. اتسمعون ايها الصم البكم العمي، وطن حر، من البحر الى النهر، وصفد بالتأكيد منها