د. محمد طالب عبيدات
حركة النهوض الاصلاحي الشامل -السياسي والاقتصادي والاجتماعي- التي تبنتها الدولة الأردنية ضمن بوصلة ورؤى جلالة الملك المعزز كانت نوعية وحسّنت الكثير من مناحي الحياة في ظل ظروف ومتغيرات زمن الربيع العربي، بالرغم من أن بعضها مسّ جزءاً نخبوياً من الشعب كالاصلاحات السياسية، وبالرغم من كل ما تم بناؤه على الأرض من اصلاحات شاملة، لكننا اليوم وقبل الغد بتنا بأمس الحاجة لاصلاحات واقعية وعلى الأرض بل وثورة بيضاء لنظامنا التعليمي بشقيه العام والعالي، لأن هذه الاصلاحات تمس كل بيت وأسرة وفرد ومؤسسة على أرض المملكة الأردنية الهاشمية، وهي ربما أهم أنواع الاصلاحات لأنها تعنى بتهيئة وتعليم وتربية وتدريب وتجويد القوى البشرية القادرة على خوض معترك الحياة وخصوصاً بعد التغيرات الاجتماعية للناس والتي صاحبت هذه الحقبة من الزمان.
وان كنّا نُقرّ ونؤمن بأن التعليم هو احدى النقاط المضيئة في وطننا بل وعلى قمّة هرمها، الّا أن مَنْ لا يُقر بضرورة بل وحتمية اصلاح نظامنا التعليمي كنتيجة لتراجعه باطّراد كالنعامة التي تضع رأسها بالرمال، فمؤشرات ضرورة الاصلاح واضحة ويكفينا بعض المؤشرات المؤطّرة والتي على رأسها الأميّة بين صفوف طلبة المرحلة الأساسية والتي تجاوزت مائة ألف طالب، وكذلك اخفاق أكثر من ستين بالمائة ممن تقدموا لامتحان الكفاءة الجامعية، ومحاولات الغش الممنهجة بالثانوية العامة وحتى الجامعات، وعدم الاهتمام بجودة التعليم ونوعيته وحتى بالتحصيل الدراسي عند معظم الطلبة، وتقدّم الكثير من الدول العربية بمؤشرات الجودة علينا بعد أن كُنّا نسبقها كثيراً في العقد المنصرم، وضعف الطلبة في التفكير الابداعي والعمل الميداني والحواري وغيرها من المؤشرات.
لا نُنكر البتّة الجهود الفردية والتراكمية عند العديد من الشخصيات التربوية الوطنية وحتى بعض المؤسسات الغيورة على نظامنا التعليمي، لكننا بالطبع نحتاج لثورة بيضاء لاسراع عملية الاصلاح التعليمي ووضع الأصابع على الجروح التي باتت تنزف كالبيئة التعليمية وكفاءة وأداء المدرسين وأساليب التدريس واهتمام الطلبة والتواصل مع المجتمع المحلي والعالمي وتوظيف طرق التفكير الابداعي والمواءمة بين الأصالة والمعاصرة وحاجات سوق العمل وتضافر الجهود بين الأسرة والمدرسة والجامعة واعادة هيبة المعلم والقضاء على المحسوبية والواسطة والغاء الاستثناءات كافة لدخول الجامعات واعتماد التنافسية الشريفة في ذلك والابقاء على المنح المالية فقط ووفق ضوابط شفافة، وربط مسألة التوظيف بالكفاءة فقط ليركّز الطالب على التَعّلم، والحد من مسألة النجاح التلقائي، وغيرها.
نحتاج لتوظيف أهداف التعليم العام لتؤطر بناء الشخصية الطالبية وتشكيل منظومة قيمية وأخلاقية ودينية عامة لدى الطلبة الى جانب الهدف الرئيس في بناء المعرفة، ونحتاج لتبني أساليب جديدة ومعاصرة للتعليم أساسها الابداع والتميز لا الحفظ والصَمْ، ونحتاج لغرس مفاهيم التفكير الابداعي وأساسيات الحوار والفهم للأساسيات لدى الطلبة لتكون مدارسنا وجامعاتنا حاضنات ابداع وتميز ومراكز اشعاع فكري.
البعض يتهم نظامنا التربوي بالتراجع الكبير بل وينادي بتبني أنظمة عالمية تمنح شهادات عبور لدخول الجامعات مثل النظام البريطاني «أي جي» والنظام الأمريكي «سات» وغيرها والاستغناء عن التوجيهي، اضافة لبعض المواد التي تعكس موروثنا الحضاري والانساني والأخلاقي والديني، وربما يكونون مُحقين خصوصاً بعد موجات وأساليب الغش المتطورة في الثانوية العامة والجامعات، لكنني أؤكد على أننا ربما نتجاوز عُنق الزجاجة بالاصلاح التعليمي لتكون مُخرجات التعليم العام –وهي بالطبع مُدخلات التعليم العالي- بخير وذلك من خلال نهج جديد وثورة بيضاء لا تُبقي ولا تذر في نظامنا التعليمي وتبني على تراكمية انجازنا التعليمي الحضاري والجزء المليء من الكأس وتُصوّب الجزء الفارغ منه.
بالطبع نحن هنا لا نحتاج لمؤتمرات واجتماعات وملتقيات ولجان فحسب لتبقى توصياتها حبيسة الأدراج، بل نحتاج على الأرض لترسيخ مفاهيم الانتماء والعطاء من القلب لدى عناصر العملية التدريسية بدءاً من المدرس ومروراً بالادارات التعليمية ووصولاً لأصحاب القرار ليكونوا نماذج تُحتذى لدى الطلبة ويؤمنون بما يوجهونهم اليه، اضافة لدور حكومي مؤثر لتصويب وتصحيح مسارات التعليم العام وأساليب التدريس والبيئة التعليمية والبحثية والميدانية والابداعية والحوارية والفكرية وغيرها صوب ولوج متطلبات الألفية الثالثة –ألفية التقنية والتكنولوجيا والعلم- باقتدار كبير، لأننا في الأردن نملك رؤوس الأموال البشرية التي هي فوق الأرض دون مصادر ومقدرات طبيعية تحت الأرض، وأتطلع الى أن يقوم كل بواجبه –حكومة ومؤسسات تعليمية ومجتمعية-بهذا الصدد دون التطلع الى أن يُقحموا جلالة الملك المعزز للتدخل والعمل على فتح ملف مبادرة اصلاح التعليم.