إنتصفت ساعة الصيف على دار 'وصفي' ، والليل السائل على وجه المدينة ليس إلّا كُحل الباكيات في السماء ، ترى الغيمَ الأبيض يطوف كصوفيّ فوقها ، وكأنّه طبيبٌ لا يقوى على إنهاء مناوبته الليليّة وهو يسمع صدر المدينة يئِنّ ، ترى الأسوارَ تتقوّسُ على الأسوار ، كأمٍّ تتقوّسُ على أبناءها الصغار ، ترى القُرى تشدُّ سلاسل القُرى ، وكأن القُرى غدت قريةً واحدة ، ترى الشواخص الإرشاديّة على مداخل ومخارج المدينة جميعها إستدارت نحو بعض ، فأينما ولّيت وجهك فلن تُبصر إلّا 'دار وصفي' ...
تأبّى أبجديّة الأردن أن تقول : 'هناك' بل 'هنا' أمّ الوطن و 'عقال الراس' هنا 'إربد'.
ما زالت جبال 'عمّان' ترفع قبعتها العسكريّة كلّما مرّ أسم 'وصفي' من أثير مذياعٍ في مركبة ، أو كلّما مرَّ من صفحة كتابٍ للتربيّة الوطنيّة في إحدى مدارس (جبل عمّان) ، أو من بين دِلال القهوة في حديث الجدّات ، أو في ذاكرة جيلٍ يذكر جيداً كيف تنفّس الوطنُ يوماً من رئة 'وصفي' ، وكيف كنّا نتلثّم 'بشماغه' كلّما ضاقت حنجرة الوطن ، وكيف كانت 'مفكرة جيبه' أنجع وصفةٍ لدواء عربيّ ، إذا ما لفحت الحُمى جبين الوطن . هي دار وصفي وعرار وكايد العبيدات وغيرهم من الأحرار الذين علّقوا صورهم على 'حيطان الذاكرة' .
إلى كلّ المتنمّرين والساخرين والعابثين باللُحمة الوطنيّة أقول : في الوقت الذي كانت فيه أمّ الوطن 'دار وصفي' تتأوّه تحت وطأة المرض ، وتسعلُ تحتَ حُمى الوجع ، كان هناك اللاف من أبناءها يضمّدون في المشافي أوجاع ابناءكم ، وجنداً من أبناءها لم يناموا كي تناموا ، وزنوداً نبشت بأظافر الصبر الحقول والمزارع كي تأكلوا ، وصفوة من المثقفين والمفكّرين كانوا لكم تنّور نورٍ ، فلا تجلدوا الوطن ، ولا تقدّوا قميص 'يوسف' ، فاليوم 'يوم المرحمة لا يوم الملحمة' ،
'إربد تحت سيطرة الجيش العربي' ، كانت تلك هي العبارة التي صدحت بها مُكبّرات الصوت لحظة دخول جيشنا الباسل إلى المدينة وقُراها ، وهي اللحظة ذاتها التي آمنتُ يقيناً حينها بأن 'دار وصفي' بخير ، هذا الجيش الذي لم يقوَ على البقاء في ثكناته وهو يعلم أن خاصرة الوطن تئِنّ ، فطوّقها كما تطوّق قلائد الجُند أعناقهم ... في وطني فقط يصبح الجنّدي طبيباً ، ويصبح المقاتل مُسعفاً ، وتصبح عربة الجيش سيّارة إسعاف ، ويصبح لِثام العسكر كمامةً ، وتصبح بحّة أصواتهم 'وصفةً طبيّةً'.
اليوم ونحن في بيوتنا تخرقُ أرواحنا وقلوبنا 'حظر التجوّل' ، وتمشي بلا كمّامات في شوارع 'إربد' وألويتها ، وقُراها ، وجبالها ، وهضابها ، وسهولها ، وحقولها ، ودواوينها ومضافاتها ؛ متضرّعين للطيف الحكيم أن يرفع عنها وعن الوطن والأمّة والبشرية جمعاء البلاء والوباء وسيء الأسقام .
المحامي
حمزة عيسى الفقهاء