بقلم: عبدالله محمد القاق
احتفل المسلمون الثلاثاء الماضي بذكرى مرور 1440 عاما على ذكرى الهجرة النبوية المباركة التي اعطت الهجرة دروسا عظيمة فى قيام الدولة الإسلامية على قواعد العدل والحق، منها توثيق الصلة بالله من خلال بناء المسجد فى المدينة، وتوثيق الصلة بين المسلمين بعضهم مع بعض، فكانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وضرورة التعايش السلمى بين المسلمين وغيرهم من ساكنى المدينة المنورة من اليهود وأصحاب الديانات الأخري، فكانت وثيقة المدينة لتحقيق الأمن الداخلي، وتوحيد الجبهة الداخلية فى مجتمع المدينة، فيما عرف بعد ذلك بأول وثيقة عرفتها البشرية لحقوق الإنسان، وتنص هذه الوثيقة على أن جميع المواطنين متساوون فى الحقوق والواجبات، فكانت تلك الوثيقة ترسيخا لمعنى ومبدأ المواطنة الحقيقية، والأساس فى بناء الوحدة الوطنية بمفهومها الصحيح، إلى جانب تعظيم دور المرأة فى الإسلام، حيث كان واضحا دورها من خلال مواقف سجلها التاريخ بأحرف من نور فى أثناء الهجرة مثل موقف السيدة أسماء بنت أبى بكر الصديق، التى كانت تصنع الطعام وتذهب به فى قيظ الحر إلى الرسول الكريم وأبيها فى الغار .
ونطالب اليوم باستلهام العبر والدروس من ذكرى الهجرة الشريفة، ونشر القيم الحميدة فى المجتمع، مثل الإيثار والشجاعة والانتماء والولاء وحب الأوطان، واتقان العمل والمحبة، حتى تنهض الأمة برسالتها، فإذا كانت الهجرة قد سعد بها المسلمون الأوائل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن المسلمين فى عصرنا الحاضر عليهم الاقتداء بأسلافهم، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، فالذى فاتته الهجرة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، عليه أن يهاجر من الحقد والحسد إلى حب الخير، وأن يهاجر من الذنوب والمعاصى إلى طاعة الله والعمل الصالح، ومن حب النفس إلى الإحساس بالآخرين، حتى يعيش الجميع فى خير وسعادة ونماء.
وفى قراءة عميقة لذكرى الهجرة المباركة، أنه فى خضم هذا الواقع الذى تنقسم فيه البلدان وتتحارب شعوبها ويتقاتل أبناؤها، يبرز حادث الهجرة للنور مع بداية العام الهجرى الجديد ليعطى لنا نموذجا فى صناعة التماسك المجتمعى وبناء اللحمة الوطنية، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة ومعه المهاجرون الذى تركوا كل شىء خلف ظهورهم لله ولرسوله وحل فى أرض لها تركيبة مختلفة، فى قبيلتين عربيتين بينهما حرب استمرت سنوات وسنوات، ويكفى أن يُذكر يوم بعاث لتعود الدماء تغلى فى العروق ويطيش العقل وتتقابل السيوف، ويهود فى ثلاث قبائل بينها تنافس تجارى واجتماع على استغلال العرب وترهيبهم بالإضافة لطبقة المنافقين التى ظهرت بعد انتشار الإسلام، فكان الهدف الأول للرسول صلى الله عليه وسلم،هو بناء كيان مجتمعى سليم ينتشر بين ربوعه الأمن والسكينة والسلام والوئام، فكانت البداية بانتزاع رايات العصبية فخلصهم من كلمة الأنا البغيضة فلم يعد هناك أوس وخزرج، بل أنصار، أنصار لله ولرسوله، ولكى يجعلهم الرسول يتمسكون بهذا الاسم الجديد، أعلنها صراحة أنه فى جانب الأنصار وأنه لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله، ولو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شعباً، لسلك النبى صلى الله عليه وسلم فى شعب الأنصار، رغم أن الشعب أضيق من الوادي، ودعا لأولادهم وذرياتهم بالصلاح، وكان هذا المسلك هو البداية لنقطة المؤاخاة مع المهاجرين، مؤاخاة لها تبعات وأعباء يقتسم فيها الدار والمال، وكان محل تقدير من أهل الأرض والسماء، مؤاخاة ليست مبنية على فروق دنيوية من غنى وفقر وقوة وضعف وعز وسلطان وحاجة، مؤاخاة سمت فوق الفروق فتجد من كان عبدا حبشيا أو روميا يتآخى مع سيد من أشراف الأنصار، فحدثت اللحمة بذلك والاصطفاف، وصدق عليهم قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، وشبك بين أصابعه.
والواقع ان الأمة فى أمس الحاجة لهذا المعنى أن يتخلى عن رأيه وحزبه وتياره، وينصهر الجميع تحت راية واحدة تعظم قيمة الإنسان وصيانة الأوطان وعمارة الأكوان وتزكية الوجدان، حتى يكون لنا شأن بين الأنام، وليُكتب للأمة طوق النجاة ويبرز لها شعاع النور وتتحول محنتها إلى منحة وشدتها إلى قوة وضيقها إلى فرج وألمها إلى أمل، فما أحوجنا الى تجربة المؤاخاة لنعيشها اليوم لإصلاح ذات البين فى مختلف العلاقات الإنسانية.
وكل عام وانتم بخير
رئيس تحرير جريدة سلوان الاخبارية
تحرير