د. رحيل محمد غرايبة
هناك صخب كبير وضجيج مفتعل على مواقع التواصل الاجتماعي وحملة تشويه وتحريض وسوء فهم متعمد يقوم بها بعضهم تجاه بعض المسائل التي وردت في مقالات سابقة حول بعض القضايا المنهجية في طرائق واساليب التعليم الجامعي،وحول دور العقل ازاء بعض القضايا الاجتهادية وجهود العلماء السابقين، ويعتمد بعضهم على منهج الاجتزاء والتصيّد ومن ثمّ التجييش والتعبئة للعامة، بعيدا عن المنهج العلمي في الحوار والمناقشة، وبعيدا عن اسلوب المناصحة الصحيح والالتزام بالحد الادنى من سلامة الصدر، في التعامل مع مسائل الخلاف واحتمالية الوقوع بالخطأ، حيث كانت معظم الكتابات والتعليقات تستند إلى المواقف المسبقة المليئة بروح التعصب الذي يتم اخفاؤه تحت ستار الدين احيانا وتحت ستار العلم احيانا اخرى، وقد وصل الشطط في الخصومة إلى محاولات الاغتيال الاجتماعي والعلمي والقذف بابشع التهم ، ولذلك وجدت من المناسب توضيح بعض القضايا استجابة لتساؤلات بعض الأصدقاء والزملاء من الأساتذة وطلبة العلم، بطريقة مختصرة وخالية من اللبس بما تسمح به المساحة المتاحة، ومنها:
أولاً: ما قام البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن خزيمة والحاكم وغيرهم من علماء الحديث ورجاله الاجلاء ، يمثل جهدا عظيما ومقدرا في خدمة الحديث النبوي، وقد اعتمدوا منهجاً علمياً صحيحاً في محاولات التوثق من صحة الأحاديث وتنقيتها، وما قدموه في هذا السياق يُعد خدمة للإنسانية والعلم بوجه عام لا يجحدها إلا ظالم.
ثانياً: ما قام به هؤلاء العظماء يبقى جهداً بشرياً، يحتمل الاستدراك والمناقشة والخضوع لقواعد البحث العلمي، وقد استدرك بعضهم على بعض، وهذا لا ينقص من جهدهم ولا يقلل من مكانتهم كما قلنا سابقاً، لأنهم ليسوا معصومين، وهم لا يدعون العصمة، وهذا مبدأ عقدي مقرر عند جمهرة مذاهب المسلمين الذين يقولون لا عصمة لأحد بعد الأنبياء.
ثالثاً: الفقهاء والأصوليون والعلماء وضعوا قواعد وضوابط للتعامل مع أحاديث الآحاد التي أوردها علماء الحديث في كتبهم، من أجل إزالة التعارض والتناقض الذي قد ينشأ في أذهان المجتهدين وأهل العلم، فهناك مدرسة الحنفية التي وصفت قواعدها الخاصة التي تتمثل بمجموعة من الضوابط، مثل: مخالفة الحديث للقياس العام وقواعد الشريعة العامة، وورود الحديث فيما عمت به البلوى، ومخالفة فعل الصحابي لقوله، وهناك المدرسة المالكية التي وضعت ضابط عمل أهل المدينة عندما يخالف حديث الآحاد. فهذا منهج علمي صحيح منيع لدى الفقهاء والعلماء قديماً وحديثاً، بالإضافة إلى علم قواعد التعارض والترجيح المعروف لدى الأصوليين.
وفي هذا السياق يجب الالتفات إلى صحة هذا المنهج الفقهي والأصولي العلمي الذي يشكل ضابطاً مهماً في حفظ الشريعة وتنقيتها، وقد تعامل به بعض الصحابة الفقهاء، مثل عائشة رضي الله عنها عندما ردت الحديث الذي رواه بعض الصحابة: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله) فقالت هذا يخالف قول الله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، وردت على الزعم بأن محمداً رأى ربه مرتين، بالقول: (إن الله يقول: (لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار)، وأمثلة أخرى كثيرة من أقوال وأفعال الخليفة عمر بن الخطاب وغيرهم من فقهاء الصحابة.
ومن هنا فإني أنصح كل الأصدقاء وطلبة العلم والباحثين عن الحقيقة توخي المنهج العلمي في مواجهة الاشاعات ونقل الكلام من خلال الانصات لصاحب القضية وما يقوله عن نفسه بنفسه ،وبعد السؤال بهدوء وتحري الحقيقة بطريقة علمية وايمانية ، كما أنصح بعض الجهات التي تحول أتباعها إلى ماكينات تشويه واغتيال أن يكفوا عن هذا المنهج غير الإيماني وغير الإنساني في التعامل مع المخالف، ويكفي توضيح ما يرونه مناسباً على صفحاتهم دون اساءة ودون ضجيج ودون اشغال الشارع بالتهم والتحريض الذي يعد من أساليب المنافقين التي نهى عنها القرآن الكريم نهياً قاطعاً وبليغاً كما فعل مع اصحاب الافك . وهناك رحم بين العلماء وطلبة العلم والمشتغلين بالهمّ العام ينبغي مراعاته، ومراعاة آداب الاختلاف، وهناك طريقة علمية لتصحيح الأخطاء والهفوات التي قد نقع فيها جميعاً، عبر الأسلوب الأخوي الراقي، والحوار العلمي الحضاري الذي يراعي آداب الاختلاف، مما ينعكس علينا جميعاً بالايجاب وحسن الثمار، ويسر الأصدقاء ويغيظ الأعداء، وكلنا بشر نخطئ ونصيب.