ناديا هاشم / العالول
على غرار ثلاثية نجيب محفوظ المشهورة : بين القصرين و والسكرية وقصر الشوق بعام 1957 ، نطرح ثلاثية من نوع آخر ثلاثية العشق والشعر والجنون .. فالعاشق المتيَّم لحد الجنون سيلهمه عشقه بكتابة القصائد إن كان مبدعا من أصلِه سيفشّ قلبه بالشعر متغزلا بمحبوبته بقصائد شعرية .. وقد يفقد عقله كما حدث مع قيس بن الملوّح – مجنون ليلى – وآخر مجنون لبنى ..الخ بزمن تعذّر فيه التواصل بعكس زمننا حيث أبواب التواصل مفتوحة بأنواعها الإجتماعية وغيرها ..
اما إن لم يكن العاشق مبدعا فإنه سيتفشّش بتعليقات ومهاترات جنونية إرادية أو لا إرادية يُدْهِش بها الآخرين لغرابتها يخرجها العقل الباطن من صميم اللاوعي تفْشي حبَّه..
حتى بالزمن الجميل القريب البعيد ...كانت تقوم القيامة ولا تقعد لو تم ذكراسم فتاة بريئة ببرنامج "ما يطلبه المستمعون" .. المخصَّص للأغاني التي يطلبها الجمهور وبخاصة إذا كانت الأغنية لعبد الحليم حافظ ..مثل حبّك نار !
وغالبا لا تكون الفتاة من طلبت الاستماع لهذه الأغنية بل أحد المعجبين المجهولين عبر احدى الاستراتيجيات العاطفية بزمن الأحلام وما يصاحبها من أوهام .. حيث العشق عن بُعْد .. وأغلبه من طرف واحد وما يعقبها من صدمات عاطفية عندما تتجلى الحقيقة المرّة ..
فمثلا " احمد رامي " كتب قصيدة له متغزلا بامرأة مجهولة تنتظره صباحا ومساء اثناء مروره .. دون ان يجرؤ على رفع عينيه للمشربية –للنافذة -المطلة على الزقاق الضيِّق المعتم .. فمجرد شعوره بوجودها السحري الخفيّ أوحى له بالكتابة ..
و عندما قرر بأحد الأيام التجرؤ والنظر الى تلك المرأة المنتظِرة دوما له ليلقي عليها التحية .. تفاجأ بجرة ماء صغيرة عليها منديل حرير –أُوية- يحاكي رأس امرأة ..
تصوروا أحلى قصائد تغنيها كوكب الشرق كان مصدر ايحائها جرّة ماء .. مما يدل أيضا على ان الإنسان قد يقع بالحب او هنا بوهم الحب ..نتيجة لفراغ روحي او عاطفي يسيطر عليه بفترات حياته فيوقعه بجنون الوهم .. مولدا وسواسا قهريا يجعله يعتقد بان الطرف الآخر المغيَّب تماما يبادله نفس المشاعر ..
قد يبدو مثل هذا التفسير بعيدا عن الرومانسية .. صحيح .. ولكننا لا ننفي وجود الحب الحقيقي الصحي بين طرفين متحابين ..
علما بأن الولَه هو نتيجة الحرمان من التواصل مما يولد هالة اكبر من اللازم حول المحبوب ..فنقول بأنه – ولهان- نتيجة الحرمان ..
ونربط بين العاشق والمجنون لتداخل سماتهما السلوكية حيث المخيّلات القوية فهما صاحبا خيال أكثر تأثيراً.. من هنا قد يرى البعض في الشاعر الذي تستبد به الخيالات والأحلام بمثابة مجنون فما الحلم إلا حالة جنون عابر يشفى منه المرء حين يستيقظ وكذلك يشفى الشاعر من جنونه حالما تهدأ نفسه وترتاح مخيلته بعد ولادة القصيدة.. والحال نفسه مع الرسام والنحات وغيرهم من المبدعين.
إن فكرة ارتباط العبقرية بالجنون قد تجد ما يؤيدها لتميزهم بخبرات عقلية يجد الفرد العادي أنه غير قادر على فهمها
علاوة على ان المبدع انسان ، والإنسان يتعرض بحياته لشتى انواع وصنوف المتغيرات من سلبية وايجابية ومن ضنك العيش ، ولا بد ان تترك آثارها على صحته الجسدية والنفسية، فيصيبه القلق، والأرق ، وتقلب المزاج ، والاكتئاب وغيره..
وهذه الأمراض النفسية والذهانية والعقلية والجسدية مرتبطة بالمبدع وغير المبدع .. فعلى الأقل يكون تهور وجنون المبدع مثمرا مشكلّا اضافة نوعية ، والعكس صحيح.. فالمجنون الحقيقي يدمر نفسه وأسرته ومجتمعه..
لكن المبدع يكون ملاحَظَا أكثر من غيره، والعين تكون عليه مفتوحة أكثر ،وبما ان بعض البشر يحب تشويه كل ما هو استثنائي لكونهم غير قادرين على منافسته وتحقيق التفوق فهم يبحثون عن اية صفة سلبية يلصقونها بالمبدع .. فإن لم يجدوها في سلوكه او مضمونه بحثوا عنها بشكله ، لو اطول ،لو أقصر ، لو أجمل ، لو أعقل ...لو اخف دما !
مجرد اية صفة سلبية يختارونها ليلصقوها بالمبدع.. وإرضاء الناس غاية لا تذكر .. نعم النقد لا بد منه ولكن النقد الايجابي البناء .. الذي يشمل الناقد نفسه ايضا لأن الإصلاح يبدأ بالنفس اولا ..
وبما ان فقط النخبة المتفوقة من المفكرين القادرة على فهم خبرات المبدع لكونها عالية المستوى لهذا يُتهم من قبل غيرهم بالغرابة بعكس المجنون الحقيقي بأفكاره العشوائية .. باختصار فإن حالة المبدع في لحظة إشراق الفكرة أو المعنى هي حالة خاصة متميزة ليست مما يعرف الناس من الحالة السوية للشخص أو لسلوكه ولهذا هناك قاسم مشترك اعظم وهو الدخول ب "اللاوعي" سواء العاشق المتيّم والموهوم بالحب ..أو الشاعر المنغمس بأعلى درجات "الأنا العليا" ريثما ينتهي من كتابة قصيدته .. وكذلك الحال للمجنون المستغرق دوما باللاوعي ريثما يشفى ،فاللاوعي هي السمة المشتركة ..الإيجابية والسلبية
ولكن
بنسبة وتناسب !