د. رحيل محمد غرايبة
كان هناك مجموعة دلائل ومؤشرات على معالم توافقات دولية وإقليمية، وخطوات عملية تتجه نحو إرساء معالم تسوية إقليمية شاملة على صعيد المنطقة , من خلال العزم على وضع حد للأزمة السورية وإنهاء ملف داعش في الرّقة والموصل, وتم الاعلان عن بناء تحالف دولي للقيام بهذه المهمة, وتم عقد عدّة مؤتمرات دولية في جينيف من أجل رسم الخطوط العريضة لمعالم سوريا المستقبل, كما أن روسيا عقدت عدّة جولات من المحادثات في «الاستانة» بين الأطراف السورية المتصارعة، وتم تقديم مشروع دستور جديد للحوار والمناقشة والإنضاج, واستبشر العالم باقتراب نهاية المأساة التي اجتاحت الأقطار العربية لمدة تزيد عن خمس سنوات عجاف.
مجيء «ترامب» رئيساً للولات المتحدة شكّل انعطافة حادة في مسار التسوية والجهود المبذولة على هذا الصعيد، ويبدو أن الأمور أخذت مساراً آخر مختلفاً عن المسار السابق الذي تم التوافق علية أثناء إدارة أوباما والحقبة الديموقرطية, حيث أن الرئيس الجديد الذي رفع شعار «امريكا أولاً» يرى ضرورة انقاذ الاقتصاد الأمريكي وهو يمثل الأولوية الأولى التي لا تسبقها أولوية أخرى, ويلقى هذا الطرح قبولاً لدى النخبة الاقتصادية الأمريكية التي تمثل صاحبة النفوذ الأقوى أثراً في إقرار السياسات العليا على المستوى الأمريكي, حيث أن الرئيس الجديد عيّن خمسة عشر مسؤولاً كبيراً في البنتاغون من جماعة المركب العسكري الصناعي الأمريكي مثل جارد كوشنر وجوناتان هوفمان وجون كيلي وبنتامين كاسيري وجيم مارشي ... « .
إن أهم رافعة للاقتصاد الأمريكي تتمثل بالتصنيع العسكري, فهي التي تحرك السوق الأمريكي الكبير الذي يعاني من بعض الاشكالات، وتوجد فرص العمل للشباب الأمريكي، خاصة إذا علمنا أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تزوّد معظم صراعات العالم المسلحة بالأسلحة، حيث تقول بعض الاحصائيات أن أمريكا تستحوذ على ثلث مبيعات العالم من السلاح, مما يحتّم علينا القول بأن الولايات المتحدة معنية بسياسة ابقاء المعارك مشتعلة, والعمل على تأجيجها وزيادة أمدها وتغذية أسبابها, خاصة في ظل الجيل الرابع من الحروب التي تنقل الصراع إلى بلاد بعيدة دون الاضطرار إلى تدخل قوات عسكرية لها بشكل مباشر في ميادين القتال, ولذلك فإن حجم الخسائر يكاد يكون منحصراً في شعوب المنطقة التي تشهد الصراع, ولا يكاد يمس الولايات المتحدة بشيء, وهذا يرجّح مسار استمرار الصراع في منطقتنا أطول فترة ممكنة من الزمن.
تحركات الرئيس الجديد في المنطقة كلها تشير الى استمرار الصراع وتغذيته وتأجيجه, واستمرار الصراع يحتاج إلى إيجاد عدو مشترك لمعظم الأطراف ولمعظم دول المنطقة، وليس هناك أفضل من « الإرهاب « ليمثل العدو المثالي المشترك الذي لا يجرؤ أحد على استنكاره, وهذا يقودنا بشكل منطقي إلى عدم الذهاب إلى الحسم المبكّر نحو إنهاء معركة «داعش», مما يؤدي بنا إلى الاستنتاج أن القتال ضد داعش ربما سيستمر سنوات، وسوف تعقبها سنوات أخرى لتتبع فلولها والقضاء على ذيولها، كما حدث مع حركة طالبان منذ خمسة عشر سنة ولم تنته بعد، ولذلك سوف يتم عرقلة كثير من التوافقات السابقة، وسوف يتم التباطؤ في إنهاء الملف السوري، وسوف يتم البحث عن صراعات أخرى مستقبلية، والعمل على صناعة أعداء آخرين مرشحين للبدء بالمواجهة، من أجل الاستمرار في هذه الاستراتيجية الناجحة في جذب الاستثمارات الكبيرة إلى السوق الأمريكي ورفد المجمع الصناعي, ولذلك يجري الآن التحشيد باتجاه بناء تحالفات جديدة ضد «ايران» بوضوح، ويجري العمل الحثيث على زيادة حدة الصراع المذهبي بين السنة والشيعة حيث تتوافر أسبابه بقوة, وهذا يحتاج إلى اقناع الدول العربية النفطية بزيادة حجم الانفاق العسكري ومضاعفته خلال السنوات القادمة من أجل مواجهة هذا الخطر، واقناع ايران بالاستغراق بالدور، ولدينا جميعاً حس الاستجابة لهذا المخطط بشكل مفرط.
المطلوب من العرب على وجه الضرورة في هذا الوقت العصيب وفي هذه المرحلة الحرجة عدم الاستجابة إلى سياسة المحاور بوجه قاطع, وعدم الانخراط في أي مسار صراعي مع دول الجوار الإسلامي، وأن يعكفوا على ولادة مشروع سياسي عربي موحد, يقوم على إيجاد رؤية واحدة تجاه القضايا العربية والإسلامية الكبرى, وبناء تحالفات سياسية وتفاهمات سليمة قائمة على الاحترام المتبادل ومنع التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والشروع في إقامة مشاريع تشاركية سلمية مع دول الجوار الإسلامي بعيداً عن الصراع الديني والمذهبي والعرقي، وتوفير الأموال من أجل الانفاق على التعليم والصحة والتنمية والرفاه الاقتصادي لشعوب المنطقة.