د. رحيل محمد غرايبة
يقول الحكيم الدكتور «مؤمن الحديدي» صاحب الخبرة الواسعة في علم الجريمة والطب الشرعي : عند وقوع الجريمة ينبغي البحث والتحقيق في ثلاثة مستويات ذات علاقة ومساس في الجريمة، من أجل فهم طبيعة الجرم والوقوف على حقيقة المجرم :
المستوى الأول : «المستفيدون» وهنا ينبغي البدء بالإجابة على السؤال من هو المستفيد من الجريمة، ومن هي الأطراف التي يعود النفع عليها من وقوع الجريمة، وغالباً ما تكون عملية البحث عن المستفيد هي النافذة الأكثر أهمية وجدوى التي يتم الإطلال من خلالها على الخارطة الشاملة والواضحة لعناصر الجريمة وأسباب حدوثها وظروف اقترافها والجهات المعنية بتنفيذها، والبيئة المحيطة بمسرح الجريمة وأدواتها وضحاياها، من أجل الامساك بالخيط الذي يقودنا إلى حقيقة المجرم والجهة التي تقف خلف الحدث، لكن من المعلوم جيداً أن هذا الطرف يكون مخفياً ويمتاز بالمكر والدهاء والقدرة على التخطيط المحكم البعيد عن الأنظار بالإضافة إلى عملية التضليل الإعلامي الذي يستغل الظرف القائم ويستثمر في الرأي العام المصنوع.
المستوى الثاني : «المقاولون والممولون» وهم أولئك الذين يملكون الشركات والمؤسسات والمنظمات التي توفر الستار القانوني والغطاء الشرعي للحركة والتنفيذ والتخطيط، وتقوم بالإعداد والتمويل، والإشراف على تفاصيل الإدارة، وعمليات الانتاج والإخراج، من خلال ما تملك من خبرة ورصيد كبير في التنفيذ، وما تتمتع به من تخصص وحرفية، وحسن اختيار الزمان والمكان والأشخاص والأدوات، وتوفير كل أسباب النجاح للانسحاب والتغطية الإعلامية وتضليل الرأي العام.
المستوى الثالث : «المنفذون» وغالباً ما يتم اختيارهم عبر شبكات الصيد من خلال البحث عن شريحة واسعة من الجهلة والمحبطين والمتعصبين والمهووسين من أتباع الأديان والحركات والمنظمات والأيدولوجيات المختلفة، وربما من المستأجرين أحياناً وخريجي السجون ونزلاء المعتقلات ومحترفي القتل والإجرام وأفراد العصابات والمافيات التي تتحكم بسوق الجريمة، وبعض المغفلين الذين فقدوا الاحساس بالحياة الإنسانية، وفقدوا معنى الكرامة الآدمية، وكثير منهم لا صلة لهم بالجهة المستفيدة.
هذه المقدمة تقودنا إلى عملية البحث في الجريمة المروعة التي ذهب ضحيتها (28) شخصاً من الأقباط المصريين على يد عصابة إجرامية تنتمي إلى «داعش» الإرهابية التي أعلنت تبنيها للاعتداء على حافلة الركاب في مدينة المنيا المصرية، فلو أردنا الإجابة على سؤال من المستفيد لوجدنا أن المستفيد الأول هو الذي يشعر بالغبطة والسرور عندما يرى لهيب الفتنة يشتعل بين المسلمين والأقباط ، من أجل زيادة الفجوة بين مكونات الشعب المصري، وهو الطرف نفسه الذي يشعر بالمتعة الزائدة في إثارة الفتنة بين السنة والشيعة، وبين العرب والأكراد، وبين العرب والأمازيغ، وبين الأتراك والأرمن، وبين الدروز والعلويين والتركمان، والزنج، والشمال والجنوب، وبين الأقطار العربية المتجاورة، وهذا الوصف ينطبق على «الكيان الصهيوني» بالدرجة الأولى والمحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية ومن يدور معهم في حلقة التخطيط التي تقف خلف إدارة الحروب والمعارك والعمل على استمرارها وامدادها بالسلاح والعتاد والمال والرجال والوقود، وكل من له مصلحة مادية أو معنوية بذلك.
المستوى الثاني في الجريمة قد يكون متمثلاً بدول وأنظمة أحياناً وجهات تتمتع بالشخصية القانونية، ولديها المال الكافي لتغطية التكاليف، وهم عبارة عن مقاولين تحت سيادة المعلم الكبير، ويتنافسون في تقديم الخدمة ومستويات الجودة، والقدرة على الإخراج وحسن الإنجاز المستوفي لمعايير الاعتماد والجودة، وقد تبدو أحياناً مختلفة، ولكن الاختلاف لا يعدو أن يكون ضمن إطار التنافس في خدمة المعلم الكبير والحصول على الحظوة والمرتبة الأفضل لدى السيد صاحب المصلحة العليا.
المستوى الثالث كما نشاهد يتمثل بالمنظمات والعصابات والأفراد والجماعات؛ التي تعد مزيجاً وخليطاً من أوساط مختلفة وعديدة تشترك في الاستجابة للتوظيف، ولديها القابلية لتنفيذ المهمة، ولكن تحت أهداف وغايات ومبررات مختلفة ومتباينة، فبعضهم بدافع الهوس الأيدولوجي، أو التعصب الديني، أو بدافع المعاناة من البطالة والاحباط واليأس القاتل، أو بدافع المال والقتل للأجرة، أو من خلال الاختراق الاستخباراتي المحترف في رسم الأدوار وتنفيذها.
يجب أن نعلم علم اليقين أنه يجري الآن العمل على بناء نموذج دويلات الطوائف الضعيفة والمتنافرة والتي تخوض حروباً بينية في عالمنا العربي والإسلامي، تمهيداً للانهيار الكبير على طريقة النموذج الأندلسي الذي سبق انهيار الأمبراطورية العربية الإسلامية في شبه القارة الإسبانية.