د. رحيل محمد غرايبة
لا سبيل لممارسة الديمقراطية الحقيقية إلّا من خلال إقرار التعددية التي تمثل الاتجاهات السياسية والفكرية ومكونات الشعب بطريقة سهلة وميسرة، بعيداً عن التعصب والتخندق وخطاب الكراهية الذي يلحق الضرر بالمجتمع والدولة، وليس هناك وسيلة أفضل من الأحزاب السياسية للتعبير عن تعددية المجتمع.
الأحزاب هي الأطر القانونية المعلنة التي تمثل البرامج السياسية التي يؤمن بها مجموعة من أصحاب الفكر والنظر والخبرة في المجتمع، والتي يطرحونها للجمهور من أجل اقناع الناس بها؛ بوصفها الطريقة الفضلى في إدارة شؤون السلطة والدولة في كل مجالات الحياة، بحيث يكون البرلمان المنتخب في كل دورة معياراً لتقبل الشعب لهذه البرامج من خلال انتخابهم والتصويت على برامجهم.
ولا سبيل أمامنا لممارسة عمل برلماني قادر على تحقيق الغايات التي وجد من أجلها إلّا عبر عمل حزبي وتنافس برامجي مشروع ومنظم ، وبغير ذلك سوف تبقى البرلمانات أطراً شكلية فارغة من مضمونها ، وفاقدة لفاعليتها ودورها المعروف لدى كل شعوب العالم ، مهما اختلفت أديانهم وأفكارهم وفلسفاتهم السياسية، وهذا يحتم علينا السعي نحو حل معضلتنا الأردنية في هذا السياق ونحن نقطع الربع الأول من القرن الواحد والعشرين.
المعضلة الحزبية لدينا لها عدة وجوه، وكل وجه منها يتحمل المسؤولية الكبرى فيه طرف بعينه، والوجه الأول يتمثل بالمنطق القانوني والسياسي الذي تنطلق منه فلسفة العمل الحزبي ، حيث أن الأحزاب في جوهر فكرتها هي الوسيلة المعتمدة لممارسة العمل السياسي حصراً ، لأن الذهاب إلى البرلمان يجب أن يكون عبر برنامج سياسي، ولا يجوز الذهاب إلى البرلمان بغير ذلك، مثل كل المجالات الأخرى التي يحصر العمل فيها عبر المؤسسات المختصة والمشروعة، مثل ممارسة العمل الخيري عبر الجمعيات الخيرية المقننة والمنظمة عبر قانون خاص، ومن خلال خضوعها للرقابة، وكذلك الأعمال التجارية عبر الشركات المسجلة التي تحتفظ بأرقامها الوطنية وسجلاتها القانونية ورؤوس أموالها المكشوفة، وهذا ما يجب أن ينطبق على المجال السياسي، وهذا المنطق يحتاج إلى تشريع دستوري متوافق عليه.
الوجه الثاني يتعلق برجال الأحزاب والعمل السياسي، الذين ينبغي لهم أن يغادروا المربعات الآيدولوجية والدينية والمذهبية والجهوية والعرقية في تشكيل الأحزاب، وأن يشرعوا في عملية مراجعة و إصلاح جذري تتناول المفهوم والأسلوب والأداة وطرق التجمع والتحزب، وهذه القضية ينبغي أن تكون نقطة البدء في إطلاق عملية الإصلاح الحزبي، ويؤيد ذلك الواقع والمشهد السياسي العربي الذي نعيشه بالدم والنار، إذ إن الأحزاب في عالمنا العربي ما زالت متخندقة في أطر أيدولوجية ودينية ومذهبية، وتحولت الأحزاب أحياناً إلى طوائف، أو واجهة لطائفة أو فئة، وهذا يخالف منطق العمل البرامجي الوطني، لأن الحزب أداة لخدمة الشعب كله، وخدمة الدولة وبنائها، وليس لخدمة فئة محددة أو دين معين أو مذهب مخصص، فهذا أمر يناقض جوهر العمل الحزبي الحقيقي، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يجب أن ننظر في نتائج هذا اللون من التحزب عبر نصف قرن من الزمان ويزيد، إذ أثمر هذا المنهج تقسيم الأمة وتفرقها وتفتيتها وإشعال المواجهة بين مكونات الشعب الواحد إلى درجة شرعنة حمل السلاح؛ ما يقتضي على العقلاء وأصحاب الرأي والنظر في الأمة أن يقفوا وقفة مراجعة جادة وعلمية صارمة، والاستفادة مما يحدث في معظم الأقطار العربية؛ لأن الاستمرار بالطريقة السابقة نفسها وبالمنهجية نفسها والأدوات والوسائل نفسها لن يؤدي إلى نتائج جديدة، وإنما سوف يؤدي إلى تكرار النتائج نفسها، ما يحتم علينا الذهاب إلى عمل حزبي جديد مختلف يتبع منهجية التجمع على البرنامج السياسي فقط وعلى وجه التحديد.
إصلاح الناحية القانونية والدستورية أولاً فيما يخص تشكيل الأحزاب وعملها، وإصلاح منهجية العمل الحزبي ثانياً، سوف يشكل بناء محطة جديدة، في تاريخ أمتنا السياسي، وسوف يشكل بوابة الإصلاح السياسي المنتظر، وسوف تحل المعضلة الحزبية التي طال عليها الأمد