ناديا هاشم العالول
ثمة حوارات وقراءات تحفّز الكاتب دوما على الكتابة .. فمثلا المقالة التي بين أيديكم تبلورت فكرتها على أثر حديث دار بيني وبين سيدة تتميّز بالرقي العقلي الذي يختار من كل بستان منطقي أفضل الأزهار وأحلاها.. فتراها دوما محتفظة بخلاصة عبقها العقلاني ناثرة نفحاتها الإيجابية قولا وسلوكا وفعلا .. دار بيننا مؤخرا حديث مطوّل حول اسلوب حياتنا الذي بات سريعا بدوراته المتداخلة مع بعضها البعض بشكل يمنعنا كأفراد وأُسَر من التخطيط الفعلي ، فما نكاد نفرغ من وضع برنامج مستقبلي قريب أو بعيد حتى تفاجئنا امور تفرض نفسها علينا دون سابق إنذار تجعلنا ندور بدوائر جديدة ، بغض النظر عن البرامج المخطَّط لها مسبَقا والتي تنتظر بفارغ الصبر الإنجاز، مما يجعلنا نتقلّب دوما في لخبطيطة باتت شبه أبدية تطبع أسلوب حياتنا بشوْشرة متجذرة ، تتأرجح دوما بين شقْلَبة وكَرْكبة حتى عند أكثر الناس تميّزا بإدارةَ للوقت ! مذكّرين بهذه العجالة بأهم قواعد إدارة الوقت :فعند حدوث تضارب زمني اثناء إنجاز المهمات فلنتوقّفْ لأخْذ نفَس عميق – هذه منّي – مجدولين المطلوب وفق أكثرها أهمية أولا ، ثم الأقل أهمية ثانيا وهكذا .. فإنْ بدَتْ لنا بأنها كلّها على نفس المستوى من الأهمية والإلحاح حينذاك نبدأ بتصنيف-المهمة منها - وفق مقياس «السرعة» منتقين «الأكثر إلحاحا» مصنّفين المطلوب إنجازه»حالا» ، أو في «العرْض القادم» او «قريبا جدا «او بالمستقبل البعيد .. فعلا .. تصنيف منطقي إداري عملي ، فهل يعقل مثلا تأجيل القيام بأمر مصيري ريثما نفرغ من القيام بعمل أقل أهمية منه بكثير ؟ احيانا لسبب او لآخر تختلط علينا رؤية التصنيف فكثيرا ما تبدو القضايا متساوية بالأهمية والإلحاح ، مما يجعل الواحد منا يركض لاهثا مثل «اليويو» من مكان لآخر، محاولا التوفيق بينها كلها معا فتنعكس سلبا على حالة الفرد نفسه وعلى أدائه.. وهنا يتدخل المنطق ناصحا إيانا بالتوقف والكفّ عن هذا العبث ! مطالبا إيانا بإتقان فن الإختيار مانحين الأولوية ل «الأسرع والأهم»وفق المقدرات والمعطيات المتاحة ، سواء بالعمل او الحياة العادية مهما تضاربت مواعيد العمل مع مواعيد المناسبات الُأُخرى من اجتماعية وغيرها .. وبخاصّة أن التضارب بالمواعيد أصبح سِمَة من سِمات حياتنا فكثيرا ما تتضارب مناسبات الأفراح والأتراح معا فنقضي الوقت بجولات مكوكية مجسّرين الهوّة بين مناسبتيْن متناقضتيْن مثل بروتوكولات المظهر الخارجي وبخاصة فيما يتعلق بأزياء السيدات ! وقد نتفرّغ مثلا للقيام بعزومة كبيرة عن قناعة ورغبة فعلية وطيب خاطر لإكرام الأهل والأصدقاء ببيوتنا والاستمتاع بقضاء وقت جميل معهم .. وفجأة وبدون مقدمات تبدأ الموبايلات بالرنين وبتواصل غريب عجيب ،حتى الهاتف الأرضي القابع بالزاوية والذي توقف رنينه منذ سنين يبدأ هو الآخر بالمناداة دون توقف ، ويا عيني وياليلي على جرس الباب الذي ينتعش أداؤه مستجيبين للطارق لنتفاجأ بعطايا وهدايا المنتَجات الزراعية من أصدقاء تذكّرونا مشكورين بصناديق خضار وفواكه، وبهذا الوقت بالذات؟ فتتراكم الأشياء القديمة والحديثة بالمطبخ لندخل من جديد بإعادة برمجة الترتيب والتصنيف بينما خط الإنتاج الأول يقبع منتظرا المباشَرة .. وتأتي الطامة الكبرى بمنتصف الاستعدادات تنفد اسطوانة الغاز مختارة هذا الوقت بالذات،وقد ينقطع التيار الكهربائي متعاطفا معها ..الخ من مفاجآت يتوسطها خبر مفاجئ بوجود واجب عزاء مُلِح لا بد من تقديمه الآن الآن وليس غدا ! وهذا كلّه يحدث بعيدا عن الحياة العملية بمتطلباتها الأُخرى التي تم وضعها جانبا ريثما ننتهي من النشاطات الاجتماعية التي تصبح طوارئ لكونها سلسلة مفاجآت تهلّ علينا لا رابط بينها تتطلب حلولا سريعة وإنجازا أسرع قبل مغادرتنا عتبة البيت الى معترك السواقة بين مجموعات القلة منها ملتزمة بقوانين السير بينما الغالبية تضرب كل شيء بعرض الحائط .. فبين شقْلبة هنا وكَرْكَبة هناك يدوخ الواحد منا عبر دوّيخه تفقده طعم الحياة المعاشة ..نعم فنوعية الحياة المُعاشة المطلوبة هي موضوع هام بحد ذاته ويحتاج الى متابعة لتحقيق الاستقرار الداخلي والخارجي والايقاع المتناغم بين ذات الإنسان ومحيطه .. حتى لو كان هذا الإنسان أكثر الناس مهارة باستخراج خلاصة السعادة من داخله لتحصّنَ من عثرات الزمن المتأهبة دوما للانقضاض على مخزون سعادته بين لحظة وأخرى ، فلن يفلح بصدّها ما دامت الإيقاعات الخارجية العبثية لا تتناغم و تيار ايقاعاته الداخلية المنسجمة مع القناعات المنطقية المتعارَف عليها .. ترى انّى لنا من عودة الى زمن كان جميلا خرجنا منه باختيارنا بسبب اللامبالاة وطغيان اللامعقول على المعقول ودحْر الأول للآخر لأسباب نعرفها او نجهلها فانقلب الزمن الجميل ليصبح زمن شقلبة يقلب معه موازين المعقول مبعثرا معها معايير المنطق بفوضى لا مثيل لها .. هذا على المستوى الفردي الأُسَري العادي دون الإشارة للفوضى التي تجتاح البلاد العربية طقّة وقايمة .. فبين كركبة وكركبة اصبح زمننا زمن الكركبة !