د.رحيل محمد غرايبة
من الأولويات الكبيرة التي تحتل مرتبة متقدمة لدى مجتمعاتنا العربية هي أولوية التعامل مع الاختلاف والتنوع بكل أشكاله ومجالاته الدينية والمذهبية والفكرية والسياسية والعرقية، بحيث ينبغي اعتبار ذلك قاعدة أساسية من قواعد البناء المجتمعي ومنهجاً معتمداً في عملية بناء الإنسان وإعداده للحياة.
نحن نعاني من «الأحادية» المتجذرة في حياتنا وفي تركيبتنا النفسية، التي تجد طريقها في مجتمعاتنا العربية على الجملة، ولم نستطع بالرغم من اتساع مساحات التعليم وانتشارها، ورغم كثرة الجامعات وتنوعها، وكثرة الإيفاد إلى الجامعات الاجنبية من أجل الدراسة والتخصص، لم نستطع أن نحد من تخفيف حدة التعصب التي أصبحت ظاهرة طاغية في كل شرائح المجتمع، وتزداد ملامح الخطورة في هذه الظاهرة لدى الأجيال الجديدة، مما يجعلنا نقف أمام هذه المشكلة وجهاً لوجه، وتبرز الحاجة الملحة للاعتراف بهذه المشكلة بوضوح وجرأة، من أجل الشروع في عملية المواجهة والعلاج عبر خطة وطنية شاملة تنهض بها كل المؤسسات المجتمعية الرسمية والشعبية بشكل متكامل عبر كل المسارات وفي المجالات بلا استثناء.
الحقيقة الأولى التي يجب أن ننطلق منها أن التنوع والاختلاف سمة أصيلة في الكون وفي جميع المخلوقات، وهي سنة من سنن الكون التي يقر بها العقلاء، حيث أكد القرآن هذه الحقيقة بكل صراحة وبين وجودها في الحيوان والنبات والجبال.."أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أنَزَلَ مِنَ السماء ماء فَأَخْرَجْنَا به ثَمَرَاتٍ مّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ.وَمِنَ النّاسِ والدواب وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ "، وقال تعالى : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ).
وبناءً على هذه الحقيقة فلا مجال لنفي الاختلاف أو القضاء عليه، وإنما ينحصر الطريق في امتلاك القدرة على إدارة الاختلاف والاستثمار في التنوع والتعددية بطريقة إيجابية، تجعل منه عاملاً من عوامل الغنى والثراء المعرفي والثقافي.
الحقيقة الثانية تتمثل بضرورة الاعتراف الجمعي بحق الإنسان في اختيار معتقده وفكره ومذهبه، وضرورة نفي الإكراه والقهر في هذا المجال بشكل مطلق لا يحتمل المساومة، وضرورة الخضوع للمنطق القائل بأن الإنسان لا يملك الحق بقهر إنسان آخر مهما أوتي من سلطة وقوة، وتحت أي ستار ديني أو سياسي.
ويترتب على ما سبق أن حرية المعتقد لا تخضع لمنطق الأكثرية والأقلية، حيث أن الأكثرية لا تملك فرض آرائها الاعتقادية والفكرية على الأقلية، بل تتحمل الأكثرية مسؤولية حماية الأقلية، وتتحمل مسؤولية توفير الأمن الفكري والمعيشي والنفسي لكل أفراد المجتمع، من أجل أن تمارس الأقلية حريتها الدينية والسياسية بلا تمييز ودون أي مستوى من مستويات العنف والتسلط، ومما يستوجب الذكر في هذا السياق أن الأقلية تخضع لرأي الأكثرية في المجالس المخولة باتخاذ قرار إداري يهم المجموع وعلى درجة سواء، حسما لمادة الخلاف المفضي لتعطيل الحياة، ولا صلة لهذا الأمر في موضوع الحريات الدينية والسياسية والفكرية.
نحن بحاجة ماسة إلى العناية بهذا الموضوع في مناهجنا، وتنشئة أبنائنا منذ سن مبكرة، ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق أنه يجب النظر إلى موضوع الحريات الدينية والفكرية، وحق الاختيار العقدي ليس من باب التسامح ولا من باب المجاملة، بل من باب الحق الإنساني الثابت المرتبط بآدمية الإنسان ووجوده، والاستناد إلى أن الحرية تولد مع الإنسان وليست هبة أو منة من صاحب سلطة ولا من صاحب الأكثرية، وفي هذا السياق نفهم صرخة عمر بن الخطاب المدوّية منذ فجر التاريخ الإسلامي « متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً «.
ينبغي أن نعلم جميعاً على وجه اليقين أنه لا مجال أمامنا سوى إعلاء شأن الحرية وحمايتها وصيانتها باعتبارها قيمة مقدسة تكتسب قداستها من خالق الإنسان والكون، وحفظها يمثل طريق النهوض والتقدم، ويجب مواجهة الخوف الموجود لدى بعض الناس من الحرية، لأن الخوف في الحقيقة يأتي من القهر والاستبداد.