د.رحيل محمد غرايبة
لقد مضى (1437) سنة ،»ألف وأربع مائة وسبعة وثلاثون عاماً « على هذا الحدث الكوني العظيم ، الذي وضع النواة الأولى لكيان سياسي جديد ، يحمل مشروعاً رسالياً نهضوياً للعالم والبشرية جميعاُ، وخص به العرب اولا ؛ ليكونوا حملة المشروع وفي مقدمة الركب الحضاري الانساني الممتد عبر الزمان والمكان، حيث كان الرسول عربياً، والقرآن بلغة العرب، وكانت الجزيرة العربية هي مهد هذا المشروع العظيم ، والعرب هم الحاضنة الاولى للدين والفكر الجديد. كانت الخطوة الأولى نحو تدشين معالم مشروع الدولة الوليدة تتمثل بوثيقة المدينة ؛ التي تعد الوثيقة الدستورية الأولى في التاريخ العربي وفي تاريخ المنطقة، وربما كان هناك محاولات سابقة على مستوى العالم ،لكنها لم ترق إلى مستوى وثيقة المدينة من حيث الجوهر والمضمون والشكل والرسالة، حيث نصت الوثيقة على اعتماد مبدأ المواطنة والتعددية والإقرار بالتنوع والإختلاف الديني والعرقي والفكري والانساني، حيث جاء في احدى موادها «اليهود أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللسلمين دينهم»، بالإضافة إلى وجود مجتمع المهاجرين والأنصار، وإقرار مبدأ المساواة بين أهل الصحيفة من حيث تكافؤ الدماء والانساب امام القانون ، والخضوع لسيادة الدولة ونظامها الموحد، ومحاربة التمييز بكل أشكاله وتجلياته. مثلت الهجرة الإنتقال الجماعي الكبير من مجتمع القبيلة والخضوع لمنطق السادة والعبيد، إلى منطق مجتمع القانون والنظام والدولة المدنية المتحضرة ؛ « والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» ، «ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل، كلكم لآدم وآدم من تراب» وأصبحت الآية الكريمة من سورة الحجرات خطاب الدولة المدنية الجديدة الموجّه إلى الإنسانية جميعاً، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». جاءت هذه الدولة الناشئة لتجمع بين الخضوع للقانون ومبادئ العدالة الشاملة إلى جانب مبدأ الحرية الآصيل ومبدأ الكرامة الآدمية التي لا يجوز المساس بها، فقال تعالى «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» إلى جانب قوله تعالى:» لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»، مصحوباُ بالقول:» لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ». وذهبت الجيوش الفاتحة لتزيل العوائق أمام سماع كلمة الحق، بعد تحرير الشعوب من قيد الإستبداد والطغيان الذي كان لسان حالهم يقول «مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي، وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» أو «مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى» وكذلك «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ» وقد عبر ربعي بن عامر عن رسالة الكيان السياسي الجديد بقوله:» إن الله قد ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل وسماحة الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة». الهجرة نقلت العرب نقلة حضارية هائلة ، لترفع قدرهم إلى ذلك المستوى الرسالي السامق القائم على فلسفة اسعاد الناس ورفع الشقاء عن البشرية المعذبة، وليوجه عقولهم نحو الإبداع الدائم والمستمر في مسار اكتشاف نواميس الكون وأسرار الطبيعة من أجل تسخيرها في رفع مستوى التحضر الإنساني، واليوم تأتي مجموعات لا تفقه معنى الهجرة ولا فلسفة الإسلام في التعامل مع الإنسان والعقل والحياة والكون، لتجعل من فهمهم المتخلف للدين عاملاً من عوامل الضعف والفرقة والشقاء وتدبير الذات، ونسف تاريخ السجل العربي الحضاري خلال (1437) سنة، لتحوله إلى انهار من الدماء والأشلاء وبالتعاون مع سدنة الاستبداد والقهر والتسلط البغيض داخليا وخارجيا.