د.رحيل محمد غرايبة
الاتفاق التركي الاسرائيلي يشكل معلماً مهما من معالم المرحلة القادمة على مستوى المنطقة، ويشكل خطوة متقدمة على طريق التسوية الشاملة التي يجري انضاجها بين مختلف القوى الدولية والإقليمية على قضايا المنطقة الساخنة والملتهبة التي سوف يتم الاستثمار بها على وجه فاعل من أجل إعادة صياغة المنطقة برمتها.
تركيا وجدت نفسها أمام الجدار وجهاً لوجه، حيث أنها تعرضت لحصار محكم من جميع الأطراف، خاصة بعد اسقاط الطائرة الروسية على إثر التدخل العسكري الروسي المباشر في الشأن السوري، ولم تجد أي مناصرة من حلفائها الغربيين بل على النقيض من ذلك شعرت تركيا أنها مستهدفة وربما تكون الخاسر الأكبر بعد العرب طبعاً عن طريق العمل الحثيث على بلورة الكيان الكردي على حدودها الشرقية والجنوبية، واشغالها بنفسها عن طريق التفجيرات العديدة في أنقرة واستانبول وبقية المدن التركية.
في ظل القراءة التركية للمشهد القاتم من حولها، عمدت إلى إحداث تغيير جريء ومفاجىء لمختلف الأوساط السياسية القريبة والبعيدة على حد سواء، وفي عالم السياسة ينبغي التخلي عن الكلام العاطفي والوجداني، وكذلك الابتعاد قليلاً عن لغة المبادىء والايدولوجيات في ظل التعرض للأخطار الكبيرة والماحقة وفي المراحل الحرجة، ومن هنا قررت تركيا الاتيان برئيس وزراء جديد، وتغيير المسار السياسي باتجاه فكفكة حلقات الزرد الحديدي المحكمة حول العنق التركي، ورأت أن البوابة الاسرائيلية ربما تكون هي المدخل المناسب للحل براي العقل السياسي التركي، بالإضافة إلى ترطيب العلاقات مع الجانب الروسي، ووقف التصعيد على هذه الجبهة في ظل القراءة القائلة : أن روسيا أصبحت طرفاً فاعلاً ومؤثراً في حل قضايا المنطقة، وأصبحت شريكاً معتبراً في أغلب الملفات الساخنة على مستوى الإقليم.
العلاقات التركية الإسرائيلة قديمة منذ نصف قرن ولكنها تعرضت للتوتر منذ الاعتداء الاسرائيلي على سفينة مرمرة التركية، وكان هناك ثلاثة شروط تركية لإعادة العلاقات مع اسرائيل، أولها الاعتذار الاسرائيلي عن قتل (9) رجال اتراك على ظهر السفينة، وتعويض أهالي الضحايا، ورفع الحصار عن قطاع غزة، وهذه شروط يمكن التفاوض عليها من الطرف الاسرائيلي، باستثناء مسألة الحصار، لأنها مسألة استراتيجية تتعلق بالمآلات النهائية للتسوية مع الفلسطينيين، ولذلك يمكن قبول حل وسط بهذا الشان يقبله الاسرائيليون والاتراك؛ يتمثل بتخفيف حدة الحصار وتسهيل عملية إدخال المساعدات الخارجية عن طريق تركيا.
ما يستحق التوقف في قراءة هذا الاتفاق أنه سوف يكون محل رضى وسكوت الأطراف بما فيها الطرف الفلسطيني المقاوم ومن حوله، لأن الاتفاق سوف يخفف عبء الحصار عن غزة، ويؤدي إلى تقديم الكهرباء والطاقة لأهل غزة المحاصرين، والإسهام في إعمار اسكاني كبير، ويقلل حجم التوتر والضيق الذي يسيطر على القطاع في ظل سلبية الطرف المصري المتعاون مع اسرائيل في هذا المسار، مما يجعلنا نتخيل المشهد القادم الذي يقوم على مزيد من ترسيخ كيانين فلسطينيين؛ كيان في غزة برعاية تركية، وكيان في الضفة خاضع لرعاية طرف عربي ضعيف ومتهالك لا يستطع أن يقدم شيئاً.
ما يجري سوف يدفع الأطراف جميعها نحو الحديث السياسي وتخفيض حدة الكلام المقاوم على الورق، والثرثرة عبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، وسوف يكون الاتفاق التركي الاسرائيلي دافعا لكل الأطراف العربية لتسارع في تحسس رؤوسها، وأن تحسن قراءة المشهد وتحسن التعامل مع الظروف السياسية المتحولة على نحو يحقق حضورها في صياغة مستقبلهم و مستقبل الإقليم.