د.رحيل محمد غرايبة
أصبح الحديث عن «التطرف» لا يعدو إحدى «موضات المرحلة» في كثير من الأحيان، عبر محاضرات وندوات ومهرجانات واحتفاليات، تبحث عن المواضيع الجاذبة، وفي مسار آخر نجد اشكالاً من الاستثمار في المسألة، وإحدى الطرق في الحصول على المال عند بعض المحترفين الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف وأينّ مواضع الدهن.
«التطرف» هو ثمرة مرة لمجموعة متراكمة من الأوضاع المعقدة التي طال عليها الأمد، وهي مرحلة متقدمة من مراحل تطور مرض اجتماعي خطير وجد البيئة المناسبة في مجتمعاتنا العربية، وفي هذه المنطقة على وجه التحديد، وأخذ المرض أشكالاً متعددة ومسارات مختلفة تتلبس بأردية دينية أحياناً وفكرية أيدولوجية لتبرير هذا المسلك المرعب.
معالجة التطرف تحتاج الى مواجهة مجتمعية شاملة ، ويجب أن تقوم على تشخيص سليم ودقيق لمفهومه وحقيقته، والوقوف على عوامل نشأته وأسباب نموه وتطوره واستفحاله، ولن تكون المعالجة فاعلة ولن تؤتي ثمارها دون هذا الفهم ودون هذا التشخيص الصحيح، لأن التطرف لا يمكن معالجته عبر الاحتفاليات والمظاهر السطحية والاستغراق في الشكليات المضللة وممارسة الاستغفال بكل معانيه.
التطرف ليس حالة أصيلة ولا طبيعية في مجتمعنا ولا في أي مجتمع، لأن التطرف حالة شاذة تكون في أغلب أحوالها ردة فعل على أوضاع شاذة، وتراكمات من الحقد والكبت الذي تلقى بذوره لدى بعض الافراد، ثم تنتقل العدوى إلى أفراد آخرين وتبدأ بالانتشار والاتساع حتى تلتهم شرائح وقطاعات عديدة في المجتمع، ثم تتطور هذه الحالة من الوضع النفسي إلى مرحلة السلوك والأفعال والمظاهر التي تطفو على سطح بعض التجمعات.
المرحلة الخطرة من مراحل نمو التطرف عندما يتطور إلى حالة منظمة، لها هيكل تنظيمي يحوي قيادة وخبراء وجنودا وأتباعا وأفكارا تحاول أن تأخذ طريقها إلى الترجمة في الواقع والميدان، والأشد خطورة أن يتطور التنظيم نحو العمل المسلّح، والانتقال إلى حالة فرض الآراء والأفكار بالقوة والعنف والقهر الجماعي، وأن تصبح قادرة على استقطاب الأعضاء والمؤيدين والأتباع، و أولئك الذين يحاولون تبرير هذه الحالة عبر مقولات وبنية فكرية مختلفة ،والامر الخارج عن المالوف ان تكون ظاهرة التطرف عبارة عن صناعة دولية واقليمية واحدى ثمار الاختراق الاستخباراتي العالمي الموجه.
ما يجب أن نعترف به، أن التطرف في اغلب احواله يقف على طرف يقابله حالة متطرفة من الجهة المقابلة، فعندما يكون هناك تطرف ديني فيكون قبالته تطرف علماني، والتطرف الشعبي يقابله تطرف سلطوي، ومن مظاهر استفحال خطورة هذا المرض، عندما يصبح بهذا الانتشار والتمدد بحيث لا يقتصر على دين محدد ولا مذهب معين، ولا فكر خاص ولا شريحة بعينها، وانما يتم ممارسته من جميع الاطراف والجهات ، وتصبح محاربة التطرف بتطرف مشابه أو أشد منه عنفاً وقسوة، مما يؤدي إلى زيادة حدة التطرف ونصبح في حلقة مفرغة.
المواجهة الفاعلة تقتضي أن تكون عبر استراتيجية شاملة تقوم على رؤية موحدة، يشترك في حملها كل مكونات المجتمع، وتصبح المواجهة عبر منظومة من المسارات المتوازية، وعبر حزمة من البرامج والخطط والإجراءات التي تتوزع فيها الأدوار لتشمل كل التخصصات والمكونات الاجتماعية والسياسية بلا استثناء، ولذلك ربما تكون الأولوية البدء بالمسار السياسي اولا لأنه يقوم على الاصلاح الوطني الشامل والمتدرج، وعلى المسار الفكري الثقافي التربوي، بموازاة المسار الاقتصادي الناجح، بحيث يشعر الشباب بأنهم شركاء حقيقيون في رسم معالم مستقبلهم، ويشعرون بأنهم منتجون فاعلون في مجتمعاتهم، ولا يشعرون بالتهميش والإقصاء والإهمال، وأنهم عالة على الدولة والمجتمع.