د. رحيل الغرايبة
تأتي غزوة بروكسل في أشد مراحل الانحطاط الفكري والديني للتنظيمات الإرهابية بكل أشكالها ومسمياتها، وهي تحمل مؤشراً من مؤشرات المؤامرة الواضحة والتخطيط الماكر الذي يقف خلف نشأة هذه التنظيمات وتغذيتها وتمويلها وتسليحها، وتوجيهها نحو أهداف منتقاة بعناية، تحدث أفدح الأضرار وأوسعها أثراً سلبياً، حيث يشمل جميع المسلمين في الوطن العربي والعالم الإسلامي وفي أوروبا وفي كل أنحاء العالم.
لماذا بروكسل وليس تل أبيب أو أي مكان في الأرض المحتلة ؟ وما الذي جعل ضرب عاصمة بلجيكا المسالمة التي لا تخوض حرباً مع العرب ولا مع المسلمين، ولا تحتل أرضهم ولا مقدساتهم، ولم تدمر مؤسساتهم ولم تشرد شعوبهم، فلو أنهم توجهوا إلى فلسطين المحتلة لتعاطف معهم خلق كثير، فهناك احتلال وتدمير وإهانة وتدنيس للأقصى والمقدسات، وهناك مواجهة دائمة ومستمرة بين جيش الاحتلال والمواطنين الفلسطينيين، لكن اختيار بروكسل يستعصي على العقل، وخارج حدود المنطق بكل درجاته ومستوياته.
الهجوم الذي وقع على المدنيين في العاصمة البلجيكية وفي المطار يعد عملاً همجياً بشعاً يتنافى مع الخلق والمروءة والأعراف الإنسانية، فضلاً عن منافاته للدين وقواعد الإسلام القاطعة ونصوصه الواضحة التي جاءت على لسان النبي الكريم بتحريم قتل الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان والعمال والفلاحين في المعركة وأثناء القتال، لأن وصية الرسول والخلفاء من بعده كانت للجيش المقاتل وليس لعامة المسلمين: « ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمآكلة....».
لذلك فإني أعتقد بكل وضوح أنه لا يجوز التعرض للمدنيين حتى من الأعداء وأثناء القتال، فضلاً عن الأصدقاء والمحايدين، فهؤلاء الذين يحملون فقهاً يجيز لهم قتل أي مدني في العالم تحت علة الكفر فهم أجهل ما يكونون بالدين والفقه، وليس لديهم أي درجة من درجات العلم الذي يؤهلهم للنطق باسم الدين.
نحن أمام تطور مذهل لحالة التطرف البشعة التي تلحق الضرر بنا جميعاً، وأعتقد أن الضرر الذي يصيب المسلمين ويصيب الإسلام أشد من ذلك الضرر الذي يصيب بعض شعوب العالم الأخرى، ويبدو أن المعالجة لن تكون مجدية إذا كانت مقتصرة على محاولة القول أن الدين منها براء، لأن العالم لن يكترث كثيراً تجاه هذا الدفاع الهزيل، وسوف ينظر الأوروبيون وكل شعوب الدنيا إلى المسلمين والعرب نظرة احتقار وازدراء دون تمييز، ودون توقف على ما يحمله من فكر معتدل أو غير معتدل، وسوف تصبح السحنة الشرق أوسطية محل تهمة في كل مطارات العالم وفي كل المحلات التي يحاول المسلم العادي أن يصلها سواء كانت مطعماً أو سوبر ماركت أو حديقة.
لذلك فإنه يتوجب على العالم العربي والإسلامي بشعوبه وأنظمته، ومؤسساته الرسمية والمدنية، وعلى العلماء والعقلاء أن يفكروا في كيفية مواجهة هذه الشجرة الخبيثة مواجهة شاملة على كل المسارات وفي كل المجالات عبر منظومة متكاملة تربوياً وعلمياً وثقافياً وسياسياً وأمنياً، عبر رؤية طويلة الأمد، ويجب الحذر من الأطراف الدولية والإقليمية التي تعمل على تصنيع الإرهابيين، وكشف مؤامرة رعاية داعش بكل جرأة، وبكل صراحة وأمانة علميّة، لأن المسألة تأتي في سياق التخطيط الاستخباراتي المجرم، الذي يجد ضالته في شبابنا الذي يكتنز الجهل والكبت والفقر والبطالة والإحساس بمشاعر الهزيمة والاحباط.