د.رحيل محمد غرايبة
ما جرى في الجامعة الأردنية (أم الجامعات) بخصوص ما يتعلق بالتجديد لرئيسها، وما يتعلق بمسألة الاعتصامات الطلابية، يفتح الباب واسعاً للنظر إلى ملف التعليم العالي كله بكل محاوره وتفصيلاته بطريقة نقدية حازمة، من أجل تسليط الضوء على هذا المجال الحيوي الذي يتسم بالخطورة والأثر العميق على مستقبل البلد ومستقبل الأجيال بلا تهويل أو مبالغة، ويهم الشعب الاردني كله.
الذين يراقبون المشهد في الجامعة الأردنية عن قرب وبطريقة موضوعية، وقفوا على مجموعة تساؤلات تستحق التوقف من أجل البحث عن إجابات واضحة تخلو من اللبس والضبابية والمواربة، وتخلو من أساليب الهروب إلى منهج الغموض المتعمد والاختباء خلف النصوص والتعليمات الجامدة بطريقة تبعث على الريبة وعدم الاطمئنان وتسهم في إضعاف الثقة بسياسات التعليم العالي على الجملة، وكانت الملاحظة الأولى متعلقة بتوقيت الاعتصام الذي جاء خلال المدة المحددة لتجديد عقد الرئيس، وجاء بعد مرور سنتين على اتخاذ القرار برفع رسوم الموازي والدراسات العليا، بالإضافة الى الاستعجال باستباق قرار مجلس الأمناء بتخفيض الرسوم بليلة واحدة فقط عبر توقيت مرصود بعناية في مسألة اتخاذ قرار عدم التجديد للرئيس.
ينبغي التأكيد على مجموعة قضايا تتعلق بملف التعليم التي يفترض أن تكون محل توافق بين جميع الأطراف المختصة بهذا الشأن وينبغي أن تكون محلاً للمنطق الصحيح وفقاً لمقتضيات المعايير العلمية والموضوعية الحاسمة التي لا تقبل الخلاف، ومن هذه القضايا على وجه الاختصار:
مجال التعليم العالي يجب أن يكون النموذج الصحيح لكل المجالات الأخرى على مستوى الدولة، من حيث الاحتكام إلى المنطق المعياري العلمي، مما يستوجب على أصحاب المسؤولية ترتيب الأولويات لملف التعليم بطريقة دقيقة، بحيث تكون المسألة الأكاديمية هي السمة الطاغية على كل المسائل الأخرى، وهي الأولوية الأولى لهذا القطاع بلا تزاحم، ما يعني إعطاء المعيار الأكاديمي النسبة العظمى في ترتيب معايير التولية والعزل والتجديد والاختيار في مواقع الإدارة والتوجيه على مستوى الجامعات، بالإضافة إلى المعايير الإدارية وامتلاك مهارة الاستثمار في الموارد البشرية والقدرة على حل المشاكل والتغلب على العوائق في إدارة الجامعات وما يتعلق بها.
المسألة الثانية: إن ملف التعليم يجب أن يخلو تماماً من وجود التجمعات المتنفذة «اللوبيات»، التي تتنافس على المكاسب والاستحواذ على المواقع، كما يجب الابتعاد تماماً عن معايير المحاصصة الجهوية أو الجغرافية في قيادة العملية الأكاديمية، ويقتضي حتماً الابتعاد عن منطق الخصومات الشخصية ومنطق تسديد الحسابات والفواتير بين القيادات الأكاديمية وأعضاء المجالس التي تتحمل مسؤولية إدارة هذا الملف، لأن الكفاءة العلمية والأكاديمية ليست ذات مساس بالتوازنات الجغرافية اوالفئوية او التوازنات السياسية.
المسألة الثالثة، التي يجب التوافق عليها من كل قوى المجتمع الأردني ومكوناته السياسية وغير السياسية بلا استثناء؛ أن العملية الأكاديمية يجب أن تخلو تماماً من تدخل الأمور السياسية في مشاكل القطاع الأكاديمي، ويجب الابتعاد عن الاستثمار السياسي والحزبي في هذا الملف، ويجب الابتعاد عن تدخل الأحزاب المباشر في التجييش والتعبئة داخل التجمعات الطلابية بطريقة فجة؛ تؤثر على سلامة المسيرة العلمية والأكاديمية، وعلى الحكومة أن تتحمل مسؤولية ضبط التدخل الحزبي من خلال الاتصال مع كل الأحزاب والقوى السياسية بطريقة صريحة وحازمة، حيث أنه تبين أن قيادات التحرك الطلابي لا تستطيع التفاوض بهذا الشأن إلّا من خلال المرجعيات الحزبية خارج الساحة الجامعية التي تصدر القرارات العليا، وهذا منطق مرفوض قطعاً، لأن الأحزاب تستطيع أن ترقب المشهد التعليمي وأن تقدم آراءها ونصحائها واقتراحاتها للحل من خلال الحكومة، أو من خلال الوزير المختص والجهات صاحبة العلاقة، وليس عن طريق إثارة الفوضى والتعبئة التي كانت متبعة في أوقات المراحل العرفية السابقة التي كانت تحظر فيها الأحزاب السياسية ولا تعترف بوجودها، أما وقد تم إنشاء الأحزاب بقانون وتمارس عملها بطريقة شرعية معلنة، فلا حاجة لاستنساخ الطرق السابقة الخفية التي تتسم بمنطق التذاكي المرفوض.
العملية الأكاديمية برمتها يجب أن لا تكون ضحية لهذه الأخطاء وهذه التجاذبات السياسية بين القيادات وأصحاب مراكز النفوذ، ويجب أن لا تبقى العملية الأكاديمية ضحية لممارسات تقليدية قديمة عفا عليها الدهر تسعى للفوضى وعدم الاستقرار على طريقة مواجهة الاحتلال، العملية الأكاديمية تحتاج إلى تدخل جراحي من أعلى المستويات من أجل مسايرة المرحلة الجديدة والانتقال نحو حياة علمية نظيفة من كل اشكال الانتهازية، ونظيفة من كل أشكال الفساد المقنع الذي يتم تحت الغطاء الأكاديمي والعلمي.