الشاهد - كتب الأستاذ المشارك لمادتي التاريخ والخدمة العامة في جامعة نيويورك تيموثي نفتالي أن الرئيسين الأمريكي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين كبيران بما يكفي كي يتذكرا أزمة الصواريخ الكوبية.
الأمريكيين يميلون إلى تذكر النتيجة السلمية لهذا الجهد لكن القادة الروس حينها كما اليوم، فهموا الإذلال الذي يعنيه التراجع أمام الولايات المتحدة وأشار في مجلة "فورين أفيرز" إلى أنه سبق لبايدن أن كشف طريقة تفكيره حيال الأزمة إذ قال خلال مناسبة لجمع التبرعات في نيويورك الشهر الماضي إنه قلق من أن يكون احتمال وقوع "هرمجدون" نووية هو الأعلى "في 60 عاماً". لكن يبدو أن للرئيسين فهماً مختلفاً للدروس من أزمة كوبا الصاروخية.
حسب وجهة نظر بايدن كما وجهة نظر العديد من الأكاديميين الأمريكيين، تم حل الأزمة بشكل كبير عبر الاحترام المتبادل ورغبة مشتركة بتفادي الحرب وتفاوض ذكي ومتعاطف سمح للطرفين بحفظ ماء الوجه. وقال بايدن خلال التجمع: "نحاول أن نعرف، ما هو مخرج بوتين؟" يبدو أنه يرى نفسه في الظرف الذي واجهه الرئيس الأسبق جون كينيدي حين كان عليه أن يساعد الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشيف في التراجع عن احتمال نشوب صراع علني وحرب نووية. وبوتين الذي وقع منذ نحو عقدين من الزمن على رفع السرية عن محاضر المكتب السياسي المرتبطة بحقبة خروتشيف لا ينظر إلى تلك الرواية من الزاوية نفسها.
هذا ما اكتشفه الكاتب اكتشف نفتالي حين كان يؤلف كتابين مع المؤرخ الروسي ألكسندر فورسنكو الذي كان اللاعب الأساسي في رفع السرية عن تلك المواد أن خروتشيف هو من خطا الخطوة الأولى نحو التراجع. بعد يومين فقط على إلقاء كينيدي خطابه الدرامي الذي طالب موسكو من خلاله بإزالة صواريخها النووية من كوبا، جمع خروتشيف زملاءه في المكتب السياسي لإخبارهم أنه من أجل تفادي الحرب يجب عليهم القبول بطلب كينيدي. في مواجهة الإهانة، حاول خروتشيف أيضاً بناء مخرج لنفسه يوصل قدرته على حفظ ماء الوجه في العالم الاشتراكي إلى حدها الأقصى ويتجنب من خلاله حرباً مع الغرب.
أضاف الكاتب أن الأمريكيين يميلون إلى تذكر النتيجة السلمية لهذا الجهد لكن القادة الروس حينها كما اليوم، فهموا الإذلال الذي يعنيه التراجع أمام الولايات المتحدة. في نهاية المطاف، فشلت جهود خروتشيف لإعادة تغليف أحداث أكتوبر(تشرين الأول) 1962 بأنها نوع من الانتصار. بعد عامين على أزمة كوبا الصاروخية، سينحى خروتشيف عن منصبه على يد زملائه في المكتب السياسي بسبب عدم الكفاءة. حيث يرى بايدن أهمية الحنكة السياسية في حل أزمة الصواريخ الكوبية، يرى بوتين الضعف بشكل غير مفاجئ.
صراحة بوتين خلال الشهر الماضي، لم يترك بوتين أي شك تجاه نظرته إلى أزمة الصواريخ وتراجع خروتشيف حين رد على سؤال الصحافي الروسي والخبير في السياسة الخارجية فيودور لوكيانوف ضمن جلسة دامت ثلاث ساعات نظمها نادي فالداي للحوار. سأل لوكيانوف بوتين إذا كان بإمكانه أن يتصور نفسه مكان خروتشيف. رفض بوتين: "مستحيل". وقال: "لا أستطيع أن أتخيل نفسي في دور خروتشيف، بأي حال من الأحوال". لم يرغب بوتين في أن يتم تشبيهه بزعيم في الكرملين تراجع أمام الأمريكيين. وكشف المزيد.
لقد كان مستعداً لخوض المحادثات، كما فعل خروتشيف مع الولايات المتحدة، لكن ليس لإنهاء الأزمة الراهنة في أوكرانيا. كان بوتين قلقاً حيال التنافس الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، كما كان الأمر مع خروتشيف. لكن بعكسه، لم يكن بوتين مستعجلاً للجلوس مع مسؤولين أمريكيين لتبريد التوترات النووية. وقال للوكيانوف: "في ديسمبر (كانون الأول) من السنة الماضية، اقترحنا على الولايات المتحدة مواصلة الحوار حول الاستقرار الاستراتيجي، لكنهم لم يجيبونا... إذا أراد أحد عقد حوار معنا حول هذه المسألة، فنحن جاهزون، فلنذهب باتجاهه".
بالرغم من عدم وجود نقاط تشابه ظاهرية بين غزو روسيا لأوكرانيا وأزمة الصواريخ الكوبية منذ ستين عاماً، من المعبر أن يكون بوتين وبايدن متمتعين بأفكار مختلفة بشأن نوعية القيادة خلال تلك الأزمة.
خروتشيف والأهداف الثلاثة أوضح نفتالي أن أزمة الصواريخ الكوبية كانت نتيجة غير مقصودة لجهد خروتشيف من أجل تحقيق ثلاثة أهداف طموحة في الحرب الباردة دفعة واحدة: تعديل ميزان القوة الدولي حيث تخلف السوفيات عن الأمريكيين في إنتاج الصواريخ البالستية العابرة للقارات، وذلك عبر إخافة الولايات المتحدة بواسطة نشر صواريخ بالقرب منها، وحماية كوبا بقيادة فيدل كاسترو وفرض تسوية جديدة بشأن السيطرة على برلين الغربية. تضمنت خطة خروتشيف الطائشة نقل صواريخ نووية متوسطة المدى عبر السفن إلى كوبا مع تدبر تفادي اكتشافها من قبل الناتو. بعد وصول الصواريخ، سيعلن خروتشيف نشرها خلال عرض مسرحي في الأمم المتحدة شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1962. بدأت هذه الخطة بالانهيار في 22 أكتوبر، حين أعلن كينيدي في خطاب بارز تمت تغطيته حول العالم بأن الولايات المتحدة اكتشفت نشر صواريخ سوفياتية نووية في كوبا.
أمل خروتشيف قبل ساعات من الكلمة، وبعدما حصل على بعض التحذيرات من علم الأمريكيين بما كان ينوي فعله، خاف خروتشيف من أن يطلق كينيدي هجوماً فورياً على كوبا. عوضاً عن الهجوم، أعلن كينيدي فرض حصار بحري على الجزيرة. لم يكن لخروتشيف أي نية بإزالة الصواريخ التي كانت موجودة في كوبا لكنه أراد تفادي صدام أمكن أن يؤدي إلى حرب نووية. لتقليص مخاطر الحرب، قرر في 23 أكتوبر أن تنعطف السفن المتوجهة إلى كوبا وألا تختبر الحصار الأمريكي. في تلك الأثناء، أمل خروتشيف بظهور إشارات إلى ضعف أمريكي أو معارضة من حلفاء الولايات المتحدة لهذا الحصار. لم تبرز تلك الإشارات.
تفادي الغليان عوضاً عن ذلك، التقطت الاستخبارات السوفياتية دليلاً على أن المسؤولين الأمريكيين كانوا يهيئون المراسلين للانضمام إلى أسطول كان سيضرب كوبا وأن الولايات المتحدة رفعت حالة التأهب لأسلحتها الاستراتيجية. خوفاً من تصعيد خطير، جمع خروتشيف زملاءه في 25 أكتوبر وقال إنه حان الوقت لإيجاد مخرج من هذه الأزمة. لم يستخدم هذا التعبير، لكن هذا ما أراده. وأراد أيضاً تفادي الإهانة. وقال خروتشيف: "هذا ليس جبناً" مشيراً إلى أن هذا "موقف احتياطي.... لا يستحق الأمر دفع الوضع إلى نقطة الغليان". ربما أمكنه أن يحقق على الأقل واحداً من أهدافه الثلاثة.
رسالة في اليوم التالي، تابع نفتالي، أرسل رسالة سرية إلى كينيدي يعرض فيها بطريقة مواربة إزالة الصواريخ مقابل تعهد أمريكي بعدم اجتياح كوبا. لم تنته الأزمة عند تلك النقطة، لكنها كانت على طريق الحل. لزم كينيدي ومستشاريه يوم لفهم ما كان خروتشيف يعرضه. في الوقت نفسه، وبفعل تعطشه إلى طريقة أفضل لحفظ ماء الوجه، تقدم خروتشيف بمطلب جديد مرتبط بهدفيه الآخرين. لقد أراد أن تزيل الولايات المتحدة رمزاً مرئياً لتهديد الناتو للاتحاد السوفياتي: الصواريخ الأمريكية المتوسطة المدى في تركيا. لقد سبق أن علم خروتشيف من جهاز كاي جي بي أن الولايات المتحدة كانت ستستبدل تلك الصواريخ بغواصات بولاريس، لكنه أراد انتزاع تنازل أمريكي ملموس آخر مهما كان فارغاً.
لم ينتظر الجواب؟ في 27 أكتوبر، وافق كينيدي على الشرط الأول كتابة والثاني سراً، عبر اجتماع بين شقيقه وزير العدل روبرت كينيدي والسفير السوفياتي أناتولي دوبرينين. كما تؤشر السجلات السوفياتية، وثمة نقاش بين المؤرخين حول هذه النقطة، جمع خروتشيف زملاءه للقبول بشروط رسالة كينيدي حتى قبل أن يسمع ما قاله شقيق الرئيس الأمريكي لدوبرينين. وعد الشقيقان كينيدي بإزالة الصواريخ لكنهما بالمقابل أصرا على عدم تبجح السوفيات بذلك أبداً.
حسب نفتالي، لا عجب في إمكانية أن يرى الروس وخصوصاً بوتين أزمة الصواريخ الكوبية كفشل للكرملين. قلب خروتشيف كامل خطته لتأسيس قاعدة صاروخية سوفياتية في كوبا مقابل القليل جداً: وعد لفظي من رئيس أمريكي بعدم غزو الجزيرة وإزالة صواريخ كانت صلاحيتها على وشك أن تنتهي ولم يكن مسموحاً للسوفيات بمناقشة هذا الأمر علناً. وبنفس المقدار كان معبراً بالنسبة إلى أوتوقراطي مثل بوتين واقع أن المأزق في كوبا سيُذكر لاحقاً كسبب لإقالة خروتشيف سنة 1964.
بوتين يدافع في المقابلة مع لوكيانوف، دافع بوتين عن ضمه لأربع مناطق في شرق وجنوب أوكرانيا ووصف داعمي السيادة الأوكرانية في الولايات المتحدة وأوروبا بأنهم منافقون. وقال: "نرى أن عمليات ديموغرافية وسياسية واجتماعية معقدة تجري في دول غربية". وتابع: "بالطبع، هذا شأنها الداخلي. روسيا لا تتدخل في هذه القضايا ولن تقوم بذلك – بعكس الغرب، نحن لا نتسلق إلى فناء الآخرين. لكننا نأمل أن تسود البراغماتية وأن حوار روسيا مع الغرب الحقيقي والتقليدي... سيصبح مساهمة مهمة في بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب".
خيبة أمل؟ من الذي يشكل "الغرب التقليدي والحقيقي"؟ يجيب نفتالي بأن بوتين كان يشير بلا شك إلى الحزب الجمهوري وأحزاب يمينية أخرى في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية. من الواضح أنه توقع قيام الانتخابات النصفية الأمريكية بتغيير المناخ السياسي في البلاد وإضعاف الدعم الأمريكي لأوكرانيا. عقب الأداء القوي والمفاجئ لحزب بايدن الديموقراطي، تبدو هذه الآفاق أقل احتمالاً بكثير. لكن بعكس خروتشيف في ذروة الأزمة الصاروخية، لا يبدو بوتين واثقاً بعد بحزم الولايات المتحدة وأوروبا. في جميع الأحوال، يرفض بوتين تشبيهاً يقارنه بخروتشيف خلال أزمة الصواريخ لأنه غير مستعد بعد للتخلي عن أي من أهدافه الأساسية حتى وإن كان سعيه إليها قد أطلق أزمة لا يمكن حلها على ما يبدو.
لتذكر هذا الفارق لم ينشأ مخرج 1962 من حنكة أمريكية. لقد نشأ أولاً من خوف روسي ولاحقاً من براغماتية. ربما ستجبر خسارة خيرسون والنجاح الديموقراطي النسبي في الانتخابات النصفية على إعادة تقييم براغماتية. قبل أسابيع قليلة، لم يكن بإمكان بوتين أن يتحمل فكرة الانسحاب من العاصمة الإقليمية الوحيدة التي تمكن من السيطرة عليها. لكن اليوم تحمل ذلك. غير أن هذا لا يشير إلى رغبة روسيا بخفض الحرارة. إن ضم بوتين للمقاطعات الأوكرانية الأربع يجعل الترويج لانسحاب استراتيجي أوسع صعباً جداً أمام الشعب الروسي.
بعكس خروتشيف، رفع بوتين مخاطر المواجهة عندما بدأت مقامرته بالتفكك. سيكون أصعب عليه التراجع وحفظ ماء الوجه. ولا يبدو أيضاً أنه يريد مخرجاً أقله لغاية اليوم. إن بايدن ومطالبي البيت الأبيض بالضغط على كييف للتفاوض مع موسكو يجب أن يتذكروا هذا الفارق. ويرى نفتالي أن "الحرب في أوكرانيا ليست مثل أزمة الصواريخ الكوبية، وبوتين، كما سيخبركم بسرور، ليس خروتشيف".