بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
تشير الإحصاءات العالمية إلى أنَّ التضخُّم في الدول المتقدمة، وخاصة في الولايات المتحدة الأمركية سيتجاوز 8%، وهو معدل لم تشهده منذ ما يزيد على 40 عاماً.
ولن يختلف الوضع كثيراً في دول المجموعة الأوروبية. ويترافق ذلك اليوم بظهور مؤشرات قوية على حالة من الكساد الاقتصادي، الذي تسببت به السياسات الاقتصادية، أولاً، ومن ثمَّ التوجهات السياسية غير المدروسة التي أوصلت إلى إشعال أزمة مع روسيا، عبر أوكرانيا، بعد أن كاد العالم يستشرف خروجاً متدرجاً من تبعات مُنحدر جائحة كورونا.
والنتيجة هي بوادر واضحة لتضخُّم تقوده تبعات ارتفاع التكاليف بشكل كبير، وظهور بوادر لتراجع معدلات النمو الاقتصادي الكلي، نتيجة لإشعال فتيل الأزمة بين روسيا وأكرانيا، عبر صب الزيت على خلافهما، أو كما يقال بسبب المثل العربي المعروف "يداك أوكتا، وفيك نفخ"، أي إنَّ الجميع وقع في شر أعماله، وأسَّس لحالة الكساد، وأسهم في ظهور الأزمة التضخُّمية، وتَعَثُّر سبل النقل والتزُّود بالمواد الأساسية، بشكله وسببه وهيكله الذي نراه اليوم. وهو ما جعل البنك الدولي يعيد حساباته حول توقُّعات النمو الحقيقي في الولايات المتحدة، مثلاً، ليخفض تلك التوقُّعات من 5.7% إلى ما يقل عن 3%، وبالتالي ظهور حالات من الركود العام مترافقاً مع إطلالة تضخُّم التكاليف.
بيد أنَّ مقالاً في مجلة الإكونومست اللندنية، نبَّه بأنه بالرغم مما يشهده العالم من تضخُّمٍ، ونموٍّ متواضع، فإنه لا يشهد حالة من معدلات البطالة الظاهرة، ما يعني أننا لسنا أمام ظاهرة الركود التضخُّمي Stagflation، التي تمَّ توصيفها في بداية عقد السبعينات من القرن المنصرم، على أنها الحالة التي يترافق فيها معدلات التضخُّم المرتفعة، مع معدلات البطالة الملموسة.
الشاهد مما سبق أنَّ ما يعيشه الاقتصاد العالمي اليوم يعدُّ ظاهرة جديدة، تستحق الدراسة بشكل يختلف عن مفهوم الوصفات الجاهزة، أو حتى السياسات النمطية. والمقصود تحديداً هو أنَّ التعامل مع ظاهرة التضخُّم الآنية يتطلب معالجة متخصصة، لا تتطلب دوماً الضبط عبر سياسات رفع أسعار الفائدة، بقدر ما تتطلب دراسة حالة الاقتصاد وتقديم العلاج الناجع والمناسب على أساسها.
فعلى سبيل المثال، تشير التوقعات إلى توجه البنك الفيدرالي الأمريكي نحو زيادات مستمرة في سعر الفائدة، بهدف ضبط التضخُّم السائد هناك، والذي سببه خليط من السياسات التخبطية التي أدت إلى زيادة السيولة في يد العامة، من جهة، وأسهمت في إشعال أزمة عالمية بين أهم مصدرين للمواد الأساسية والطاقة في العالم، من جهة أخرى.
ناهيك عمّا تأثر به الاقتصاد الأمريكي عبر السياسات الحمائية، غير المدروسة، التي انتهجها الرئيس السابق والتي أدت إلى فرض رسوم وضرائب مرهقة، زادت من كلف المواد المستوردة، أكثر مما شجَّعت على إنتاج أو استهلاك المُنتج المحلي. والمحصلة أنَّ البنك الفيدرالي الأمريكي، وكذلك بنك إنجلترا، وكثير من البنوك المركزية في المنظومة الأوروبية، لم تجد سوى سياسات ضبط الطلب عبر زيادات متكررة لأسعار الفائدة، حفظاً على القوة الشرائية للدولار واليورو والجنيه الإسترليني.
بيد أنَّ دول العالم مطالبة اليوم بمقاربة مختلفة نوعاً ما عن الاتباع الأعمي والتام للسياسات النقدية الأمريكية والأروبية، بل قد يكون من الأجدى إعادة النظر في المنهجية السابقة التي فرضت على بعض الدول الحفاظ على هامش كبير بين العملة المحلية والدولار، وصلت في بعض الحالات إلى نحو 500 نقطة أساس، أي 5%، خاصة تلك الدول التي تتبع سياسة تثبيت سعر صرفها على الدولار الأمريكي، دون غيره.
ذلك أنَّ من المتوقع أن تصل أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، قبل نهاية العام الحالي، إلى ما يزيد على 3%، ما يعني أنَّ على الدول التي تتبع سياسة الهامش الملموس بين الفائدة على العملة المحلية والفائدة على الدولار أن ترفع أسعار فائدتها على الودائع المحلية بحيث تتجاوز 8%، ما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة على القروض بالعملة المحلية بحيث تتجاوز منزلتين عشريتين، وقد تصل إلى نحو 13% للعام الحالي. وهي نسبة قاتلة للاستثمار، ومحفزة للادخار وعلى الاحتفاظ بفوائض نقدية وسيولة عالية، بدلاً من الدخول في استثمارات.
ذلك أنَّ الحصول على عوائد استثمارية تتجاوز سعر الفائدة على الودائع، بل وتتجاوز سعر الفائدة على القروض، نظراً للحاجة إلى القروض دوماً في أي استثمار، أمر يصعب تحقيقه في ظل ظروف القوى الشرائية الضعيفة للعديد من الدول حول العالم. والنتيجة هي أنَّ العالم المتقدم اليوم يعالج التضخُّم بوصفة واحدة، في حين أنه يعاني من مرضين مختلفين.
فالعلاج الذي طفِقت إليه مجموعة الدول المتقدمة، هو لمرض فيروسه سياسات التسيير الكمي المبالغ بها، والحقن غير المدروس للسيولة لعامة الناس، مما ولَّد تضخماً جانب الطلب الكلي، بفعل حجم النقود الذي لا يتناسب وحجم المعروض من السلع. وعلى صعيد آخر، وفي الوقت الذي أدت جائحة كورونا إلى تعطل سلاسل التزويد، وارتفاع كلف الحصول على المواد الأولية، بفعل ارتفاع كُلف النقل والكُلف اللوجستية، جاء إشعال أزمة روسيا- أوكرانيا، إلى تعطل الحصول على السلع الأساسية، والتزود في الطاقة في معظم دول المجموعة الأوروبية، ما أشعل وحرَّك المزيد من مسببات تضخُّم التكاليف.
وفي حين أنَّ الحالة الأولى للتضخُّم تتطلَّب رفع أسعار الفائدة، بهدف الحفاظ على العملة والقوة الشرائية للمتعاملين بها، فإنَّ حالة تضخُّم التكاليف تتطلَّب سياسات تحفيز جانب العرض، عبر مسارين؛ الأول عاجل، يتمثَّل في البحث عن البدائل لمصدر أو لنوع أو هيكل الحصول المواد المستوردة، والثاني استراتيجي يقوم على الاعتماد على النفس، عبر سياسات استثمارية تعوض ما يتم الاعتماد عليه من الغير، وهي سياسات استثمارية ليست بالضرورة محصورة في بلد محدد، بل يمكن تنفيذها عبر تفاهمات إقليمية تؤدي إلى اعتماد متبادل، وتبادل تجاري عبر الروزنامات والمقايضة المتبادلة.
والشاهد مما سبق جميعه هو أنَّ على دول العالم المُتأثرة بالتخبط الاقتصادي العالمي القائم أن تتجه نحو مجموعة من السياسات النقدية والمالية المحددة، والتي على رأسها، أولاً، التحوُّل نحو مقاربة جديدة لسعر الصرف، تقوم تدريجياً، على الفكاك من الدولار، عبر سلة عملات ومعادن وتسويات رقمية ذات أوزان عمقها الأساس هو وزن التسويات المالية في التجارة الدولية لكل دولة، والثاني، مسار فوري يقوم على التحرُّر التام من الربط المتوازي مع الدولار في تحريك أسعار الفائدة، وجعل ذلك مرتبط بحجم التأثر بعملة الدولار في التسويات العالمية، وحصر تطبيق أي رفع في أسعار الفائدة على معاملات القروض والودائع الجديدة، أو التي تمّت في نفس العام فقط، وبوزن نسبي يتماهى ووزن الدولار في التعاملات المحلية والدولية للدولة.
كما يتطلَّب الوضع سرعة اللجوء إلى سياسات تحفيزية في جانب العرض تؤدي إلى مزيد من الاستثمارات الوطنية والإقليمية في كافة مجالات السلع الأساسية، وخاصة الغذائية منها، وكافة مجالات الطاقة والمياه. وهي سياسات تتطلب جهداً إقليمياً نوعياً يقوم على تقاسم المصالح والفوائض الوطنية، ومباعدة السياسة الخلافية، أو التجاذبات أو المواقف السياسية المتعارضة، أو حتى المواقف السياسية السابقة المتباينة بين الأنظمة الإقليمية مهما كانت.
أستاذ مشارك سياسات عامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية