الشاهد - لم تكن الأحداث الجارية في أوكرانيا والتي اندلعت في الــ24 من فبراير الماضي لتأتي في وقتٍ أسوأ من الوقت الراهن لحركة التجارة العالمية، وبصفة خاصة قطاع التجارة البحرية وشحن الحاويات. فبينما يُعاني العالم أصلاً اضطراباً مُستمراً منذ ما يزيد على العامين في سلاسل التوريد والإمداد العالمية بسبب حالة الإغلاق وتوقف النشاط في عدد ليس بالقليل من دول العالم بعد تفشي جائحة «كورونا» منذ مطلع عام 2020، جاء الصراع الروسي الأوكراني ليُفاقم الاضطراب وينقل الأزمة إلى آفاق أبعد وأكثر تعقيداً يصعب التكهن بما قد تؤول إليه. نحاول في ما يلي تقييم أزمة التجارة العالمية بسبب أحداث أوكرانيا واستشراف تداعياتها المُستقبلية.
شلل لوجيستي
نتحدث اليوم عن ممرات بحرية مُغلقة أو على الأقل يصعب الدخول إليها بسبب الحرب في أوكرانيا، وعقوبات أمريكية وغربية غير مسبوقة في شدتها طالت مُختلف جوانب النشاط الاقتصادي في روسيا. ومُحصلة ذلك كله انخفاض حاد في حركة التجارة والشحن البحريين، يتبعه منطقياً انخفاض أكثر حدة في حجم البضائع والإمدادات المنقولة على مستوى العالم وارتفاع مؤلم في أسعار السلع والمُنتجات الغذائية والاحتياجات الأساسية لغالبية شعوب العالم، إن لم يكن جميعها.
وبحسب شبكة «سي إن بي سي»، فقد أغلقت القوات البحرية الروسية حركة الملاحة في وخارج «بحر أزوف»، أحد المداخل القليلة لحركة التجارة البحرية العالمية إلى أوكرانيا.
وأكّد كريستيان رويلوفز، الرئيس التنفيذي لشركة «كونتينر إكس تشينغ» الألمانية لحجز الحاويات وتسهيل الخدمات اللوجستية، أن حركة نقل الحاويات توقفت تماماً في المناطق البحرية القريبة من روسيا وأوكرانيا، وخاصة «البحر الأسود»، وتكدّست الشُّحنات، ما خلّف شللاً لوجستياً تاماً هناك.
وقال رويلوفز: «ثمّة أجزاء من «البحر الأسود» و«بحر أزوف» تُعد خطرة أو على أدنى تقدير غير قابلة للمرور منها، فهناك هجوم بالصواريخ على السفن التجارية وأيضاً إغلاق المسارات أمامها، بل مُصادرتها في بعض الأحيان».
ولم يقتصر الأمر على الشلل اللوجستي، وإنما أرغمت الأخطار الناجمة عن الوضع في أوكرانيا غالبية شركات التأمين في العالم على رفع أسعار بوالص التأمين على الشُّحنات البحرية المتوجهة إلى «البحر الأسود». كما ارتفعت أسعار التأمين على السفن بنسب تتراوح من 1% إلى 5% من سعر كل سفينة.
ارتفاع أسعار النفط
بحسب تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، فإن لارتفاع أسعار النفط العالمية إلى ما يتجاوز 130 دولاراً للبرميل في الأسبوع الماضي دوراً إضافياً في إعاقة حركة التجارة العالمية. وحتى بعد انخفاض سعر النفط حالياً إلى نحو 109 دولارات للبرميل، فلا يزال مُرتفعاً على النحو الذي يُؤدي إلى ارتفاع أسعار مُختلف السلع، وخاصة الاستراتيجية منها كالقمح.
ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن روسيا وأوكرانيا تستأثران معاً بنسبة 29% من صادرات القمح العالمية. وعلاوة على كل ما سبق، فقد ارتفعت أسعار ناقلات النفط بنسب تتراوح من 157% إلى 591% منذ اندلاع الأحداث في أوكرانيا.
تعليق أنشطة الشركات
وفي مواجهة كل تلك التداعيات، اُضطرت شركات لوجستية عالمية عديدة إلى تعليق عملياتها في منطقة النزاع. وقد أعلنت شركة «دي اتش إل اكسبريس» الألمانية الشهيرة لخدمات البريد السريع عن إغلاق مكاتبها وعملياتها في أوكرانيا حتى إشعار آخر، فيما أفادت شركة «يو بي إس» الأمريكية لخدمات الطرود وإدارة سلاسل التوريد بتعليق خدماتها من وإلى روسيا، بيلاروسيا، وأوكرانيا.
آفاق ضبابية
مع استمرار القتال في أوكرانيا، وتأرجح المؤشرات بين تفاؤل وتشاؤم بشأن حل سلمي للنزاع الروسي الأوكراني، تبدو آفاق حركة التجارة والشحن العالمية ضبابية ومُبهمة. وتأكيداً على ذلك، حذّرت «الغرفة الدولية للشحن البحري»، التي يقع مقرها في لندن، الخميس الماضي، من إمكان المزيد من التفاقم في سلاسل الاضطراب والتوريد العالمية، ليتحوّل الأمر إلى أزمة خانقة، وذلك بسبب النّقص المُستمر في أطقم العمل على متن سُفن الشّحن البحري على مستوى العالم.
ويُمثل البحّارة الروس والأوكرانيون نسبة 14.5% من إجمالي القوة العاملة في قطاع الشّحن البحري عالمياً.
وجاء في بيان أصدرته الغُرفة: «للحفاظ على حركة تجارة بحرية انسيابية من دون عوائق، يتعين أن ينضم البحّارة إلى السُّفن بحُريّة في موانئ العالم كافة، إلا أن الرحلات من وإلى منطقة النزاع قد ألغيت، ما جعل الأمر صعباً على نحو مُتزايد».
وأضافت الغُرفة في بيانها: «أدّت المخاوف بشأن سلامة أطقم العمل والقيمة المُتزايدة لبوالص التأمين إلى إحجام مالكي السُّفن عن إرسالها إلى روسيا أو أوكرانيا».
وكانت الغُرفة، التي تُمثل 80% من أساطيل التجارة البحرية في العالم قد أكّدت في بيان آخر أصدرته الشهر الماضي أهمية ضمان القُدرة على سداد رواتب البحّارة عبر الأنظمة المصرفية الدولية.
مزيد من الصعاب
أدت العقوبات المفروضة من جانب الولايات المُتحدة، وأبرز حلفائها، وهم كندا ودول الاتحاد الأوروبي، على روسيا، إلى جعل الأمور أكثر سوءاً على صعيد التجارة الدولية، سواء كانت بحرية أو حتى جوية.
وبحسب تقرير «نيويورك تايمز» الأمريكية، فقد ارتفع عدد الناقلات الغربية المُتخصصة في الشحن الجوي التي علّقت خدماتها في روسيا التزاما بالعقوبات، حتى باتت سعة الشحن الجوي الإجمالية لدى هذه الناقلات تستأثر بنحو 62% من إجمالي السعة العالمية.
الطيران عقبة إضافية
وجاء إحجام غالبية الناقلات الجوية عن دخول الأجواء الأوكرانية تجنباً للاقتراب من المجال الجوي الروسي ليفرض حالة من محدودية الطيران، التي أدت بدورها إلى المزيد من النّقص في كميات الإمدادات المتوافرة من البضائع، كون الناقلات الجوية تستأثر بنحو 20% من حركة الشحن عموماً على مستوى العالم.
وكانت أسعار الشُّحنات الجوية المُتجهة من الصين إلى أوروبا قد سجلت ارتفاعاً في أسعارها بنسبة 80% في نهاية فبراير الماضي، إذ بلغت قيمة الكيلوجرام الواحد 11.36 دولاراً، إذ عمدت العديد من الناقلات الجوية إلى فرض رسوم إضافية على أسعار الشُّحنات بسبب الأخطار الناجمة عن الحرب.
عزل البنوك الروسية عن «سويفت»
وكانت الولايات المُتحدة وحلفاؤها الغربيون وافقوا على عزل البنوك الروسية عن نظام المُراسلة بين البنوك الدولية، والمعروف اختصاراً باسم «سويفت»، الذي يربط بين أكثر من 11.000 بنك في أكثر من 200 دولة وإقليم. وفي ظل تدهور قيمة «الروبل»، عُملة روسيا، بسبب العقوبات المفروضة من الولايات المُتحدة والغرب، تزايدت صعوبة سداد الرواتب للبحّارة الروس.
وقال جيمس كومبيز، الرئيس التنفيذي لشركة «فيكتور. إيه آي» البريطانية لتخليص الشُّحنات البحرية رقمياً: «بعد الانخفاض المُتسارع في قيمة «الروبل»، باتت شركات روسية عديدة غير قادرة على سداد مُقابل أي شُحنات على متن السُّفن، الأمر الذي يعني المزيد من الشُّحنات المهجورة على أرصفة الموانئ».
وأضاف كومبيز: «بات مُتعهدو الشحن البحري عالقين في أزمة ناجمة عن عدم سداد قيمة العديد من بوالص الشحن».