الدكتور خالد الوزني :
تعدُّ تجربة سنغافورة على المستوى العالمي أنموذجاً حياً للوصفة العملية لحسن إدارة واستخدام الموارد الاقتصادية، برغم شحّها، والوصول إلى رأس الهرم في الاقتصادات الأكثر نمواً وتميزاً وتنافسية. هذه الدولة التي لا يزيد عمرها على 56 عاماً، ولا تتجاوز مساحتها الكلية 720 كيلو متر مربع تقريباً، وعدد سكانها، بتنوع طوائفهم وأعراقهم، أقل بقليل من 6 ملايين نسمة، أثبتت للعالم أنَّ وضع أيِّ اقتصاد على الخريطة العالمية لا يتطلَّب أكثر من ثلاثة أعمدة متساوية الأهمية، ومتداخلة مترابطة ومتمازجة. هذه الأعمدة، كما وصفها بعض الباحثين هي: الجدارة، والبراغماتية، والأمانة. ثلاثة أعمدة صلبة حوَّلت دولة، لم تقبل ماليزيا احتواءها ضمن مساحتها، ونبذتها من خريطتها الجغرافية، إلى إنموذج ارتفع مستوى دخل الفرد فيه من أقل من 500 دولار سنوياً، إلى ما يزيد على 55 ألف دولار، وخلال فترة لا تتجاوز 50 عاماً، نموذج أثبت أنَّ المساحة الصغيرة، والديمغرافيا الصغيرة المتنوعة يمكنها أن تولّد ناتجاً محلياً إجمالياً يتجاوز 370 مليار دولار، وهو مستوى دخل تحلم به العديد من دول العالم التي تزخر بمساحات شاسعة، وموارد اقتصادية متنوعة، وكتل بشرية أكثر تجانساً. وقد باتت سنغافورة، منذ زمنٍ طويل، وبفعل أعمدتها الثلاثة، تتربَّع على عرش تقارير التنافسية العالمية وتقارير سهولة بدء الأعمال. هذا النموذج الذي تتمنّى دول العالم النامية والمتقدمة أن تصل إليه، أثبت أنَّ دولة صغيرة بموارد محدودة يمكنها أن تكون في مقدمة دول العالم إذا ارتكزت إلى الأعمدة الثلاثة. وعلى رأس تلك الأعمدة تأتي الجدارة، والتي تعني ببساطة اختيار أفضل مواطني الدولة لقيادة وإداراة الموارد الاقتصادية، وإدارة مرافقها، ووضع سياسات الاقتصاد الوطني، وفي تنفيذ الخطط التنموية، بعيداً عن الواسطة والمحسوبية وجوائز الترضية. وصحيح أنَّ النموذج السنغافوري اعتمد على قيادة ورؤية رئيس وزرائها المؤسِّس، لي كوان يو، الذي توفي في بداية العام 2020، إلا أنَّ تلك القيادة اعتمدت بشكلٍ أساسيٍّ على استقطاب أفضل المواطنين لتكوين فريق العمل الذي أسَّس للانطلاق والبناء والتعمير، ويقال إنَّ شخصية مثل الدكتور جوه كنج سوي، كانت وراء المعجزة الاقتصادية في سنغافورة، وهو مَن هندَسَ الفكر الاقتصادي التنموي الذي أوصل سنغافورة إلى معجزتها الاقتصادية، ومرة أخرى عبر قناة الجدارة في تسليم إدارة مرافق وموارد الدولة البشرية والمادية. أمّا العماد الثاني لمعجزة سنغافورة فقد وُصِفَ بأنه البراغماتية، وهو يعني ببساطة أنَّ الأمر لا يتطلَّب إعادة اختراع العجلة في الشأن الاقتصادي والتنمية الاقتصادية والمجتمعية؛ فالعالم زاخر بالتطبيقات المُثلى، والعاقل مَن استفاد من تجارب الآخرين، وتجاوز زلَّاتِهم، وبدأ من حيث انتهوا، وفوق ذلك كله، وضع رؤيته في التعلُّم من الدروس المستفادة من تجارب الآخرين، لا لكي يماثلها، أو يطبقها بحذافيرها، بل ليُطوّعَها لما يناسبه، مع الإصرار على أن يكون أفضل منها. ففي العالم تجارب وتطبيقات لكل شيء، وعلى الدول الراشدة الواعية البراغماتية أن تبحث عن تلك التجارب والتطبيقات وتحاول أن تستفيد منها وتضع نصب أعينها أن تكون أفضل. أما العماد الثالث، والذي يكاد يكون ركيزة نجاح العمادين الأولين، فهو الأمانة. وهو الأبسط شرحاً وتوضيحاً، ولكنه الأهم والأعقد تطبيقاً وتنفيذاً. فالأمانة، بما تعنيه من اجتثاث الفساد، والإخلاص في العمل، والشفافية في الإجراء، والحاكمية الرشيدة في صياغة القوانين والإجراءات ووضعها موضع التنفيذ، هي عمود الرحى الذي ترتكز إليه آليات الجدارة، والبراغماتية. ومعكوس الأمانة هو الفساد والإفساد، وهو ما أدّى إلى فشل العديد من دول العالم ذات الموارد الخصبة، والإمكانات الضخمة ووضعها في أدنى درجات الدول النامية، أو حتى المتخلفة. بيد أنَّ تمتين الأعمدة الثلاثة السابقة انعكس على ثلاثة محاور اقتصادية واجتماعية للدولة؛ محور التعليم الحكومي، ضمن خطة تنمية موارد بشرية تعتمد على التأهيل وليس على منح الشهادات، أو على ترحيل الطلاب من مستوى دراسي إلى آخر بحثاً عن شهادة، بغض النظر عن مؤهلات وكفاءة مَن يحملها. ومحور تحسين الإنتاجية للقوى العاملة، والاعتماد على التطبيقات التكنولوجية والرقمنة، مع الاعتماد على العمالة الوافدة في متطلبات العمل الذي يحتاج إلى عمالة متدنية المهارات، أو إلى مستويات إنتاجية تفتقرها الدولة، والمحور الثالث والأخير هو محور الاستثمار وتنميته ووضع بيئة استثمارية تنافسية للغاية، محفزة للاستثمارات المحلية وجاذبة للاستثمارات الخارجية النوعية، ما جعل الدولة تحتل المركز الأول في تقارير التنافسية العالمية وتقارير سهولة بدء الأعمال.
دروس التجربة السنغافورية سهلة ومباشرة وواضحة للدول التي ترغب في تطوير اقتصادها والخروج من أزمتها، وتتلخَّص في ثلاثة كلمات، الجدارة، والواقعية العملية- البراغماتية، والأمانة والإخلاص في العمل. أعمدة حقيقية لا تصلح أن تكون شعارات فقط، ولا يكفي أن تكون ضمن القسم عند تسلُّم المسؤوليات، بل تتطلَّب قوانين يتم تطبيقها على الجميع دون تمييز، وبمفهوم الحافز والعقاب، وفي إطار من الرقابة الدائمة، والمتابعة الحثيثة، والتحفيز الدائم، والعقاب الرادع لكل مَن يخرج عن المسار.
khwazani@gmail.com