لوهلة .. ساد الصمت، اختفى كل ما حولي الا العيون التي تترقبني، الكل متعجب، وكأنهم يقولون ليس هو، ما هكذا عرفناه، وبدأت الشكوك تراودهم، فقد شاهدوا دموعي، نعم للمرة الأولى يرون الصخر يلين.
أعوذ بالله من كلمة أنا، ولكنني دائماً كنت ذلك الرجل السلطي الصلب في الأزمات، الثابت في الأحزان، حتى وان كنت أعتصر ألماً في الداخل لم يكن لذلك أن ينعكس على ملامح وجهي، ولأني بكر والدي كان يجب أن أكون صلباً يستمد مني جميع من في الدائرة القوة ورباطة الجأش، حتى ظنوا أني قاسي القلب، لم يقدروا بأن الدور يتطلب كل هذا، والأهم أني يجب أن أتحلى بصفات اسمي .. صخر.
هي اللحظة الأولى التي شعرت فيها بالضعف، شعرت بالكون يضيق كتلك الحفرة التي أقبلت بها جنتي نحو الله، لم أستطع أن أمنع حبات عيوني من ذرف الدموع وهي ربما المرة الثانية، فالحدث جلل، باب آخر من أبواب الجنة قد أغلق، باب الرحمة، من كنت أرتمي على صدرها في ضيقتي، من كانت تحتوي ألمي، صديقتي وحبيبتي اليوم لم تعد قادرة على الهمس في أذني، لن أتحسس حنان أناملها وهي تمسح تعب الأيام عن وجنتي مجدداً، غابت جنتي وأقفلت عيونها الساحرة للأبد.
لم تحملني قدماي، ولم تطاوعني يداي على ردم التراب في قبرها، كان قلبي يشدني لاحتضنها للمرة الأخيرة، وكانت روحي تجهش بالحنين لها، كم تمنيت مرافقتها، فهي ذاهبة لحضن الرحمن الرحيم، ذاهبة مستبشرة، راضية لوجهه الكريم، لراحة أبدية، لمجالسة أحبابٍ كم اشتقت لهم، لأرواح طاهرة مطهرة تدعوا لنا، تزيح السواد عن طريقنا، هناك في عليين كل شيء جميل.
كنت أترنح وأنا أشاهد نعشها يسير نحو المثوى الأخير، كنت أسال قلبي وأدعوا كفنها أن يترأف بجسدها الرقيق، فهو برقة روحها التي طافت في السماء، بقدر ما تحملت عناء الأيام، بقدر ما دعت وعطفت علينا صغاراً، بقدر ما كانت رحمة لنا كباراً، لن أحدثكم عن جنتي، فكلماتي عاجزة عن وصف ماء عيونها، وزكاوة صوتها الشجي، محبتها التي غمرت الجميع، ضحكاتها التي سأشتاق لها غطى السواد الدنيا عندما غطاها التراب وضمها بدلاً مني، لم يواسيني إلا أنها رحلت وهي راضية مرضية، حتى في مرضها كانت حريصة على مرضاة ربها، على سيرتها الطيبة، دعوات جيرانها وكل من حظي بمعاملتها قبل أقربائها.
كانت وتد البيت وعاموده، كانت عكازنا الذي سندنا في الأيام الصعاب، الخيط الذي نسج الأمل وحاك التفاؤل، قلباً كالجنة، ربيعاً عبقه ريحان، ياسمينة ظللت أرواحنا، زهرةً جعلت كل شيء جميلاً، طفلة دللتنا، عصت على كل ألم وصمدت، كانت قوية كسنديانة في تراب السلط، فقدت عزيزين كثر، ذهبت لتعتني بأبي وأخواي مصطفى وإبراهيم، فهم الآن بحاجتها، ربما شعرت بذلك، أبلغيهم السلام واشتياقنا وترحمي علينا واحمينا من السماء.
كان عندي أم قلبها كالجنة، رحلت لتخبرني بأن الطيبين لا يدومون طويلاً، تركت ألماً بكل أعضائي، أمي فقيدتي نائمة في ذلك القبر وتركت غصات في روحي لن تزول فهي غصات حنين تقتلني، تفتت ضلوعي وتعذبني، لكنني رضيت بقدر الله وقضائه، وأدعوه أن يسكنك جنانه يا جنتي، جعلني الله ذلك الولد الصالح الذي يدعوا لك في كل لحظاته، مع كل نفس يخرج مني.
ها هو العيد عالأبواب وبأي حال يعود، أي جبين سأدنو له وأي كف سأقبله، ممن سأطلب الرضا، واي ضلع سيضمني، عيدك وحياتك عند الله أجمل، تركتك في حمى الرحمن ورحمته ..وأعانني بالصبر على فراقك...
ابنك المحب
تعليقات القراء
لا يوجد تعليقات
أكتب تعليقا
رد على :
الرد على تعليق
تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن
الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين
التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع جريدة الشاهد الاسبوعية - الشاهد
علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.