د. محمد طالب عبيدات
ضدية الكفاءة والواسطة في صراع دائم لأن في الأولى معايير النزاهة والمسؤولية الإيجابية والبناء الصواب وفي الثانية تجسير للطريق غير القويم صوب تحقيق الأهداف بالطرق الإلتوائية.
حيث تعتبر مقاييس الكفاءة –والتي تشمل الشهادات العلمية والعملية والجانب المعرفي والأكاديمي والثقافي والجودة والنوعية والشخصية والخبرات والتدريب والريادة والإبداع والتميز والموهبة والمهارات العصرية وغيرها- من المعايير والمقاييس التي تستخدم في تقدير وضبط كفاءة القوى البشرية سواء ممن هم على رأس عملهم أو من هم من متقدمي الوظائف للمؤسسات الرسمية والخاصة أو منظمات المجتمع المدني. والكفاءة بالمطلق دوما عنوان كبير وفضفاض لكنه يلامس جودة المنتج البشري ويساهم في تحقيق أهداف المؤسسات أنّى كانت، لأن العنصر البشري هو دوما أساس التنمية والتحديث والتطوير وأساس الإنتاجية ورسم السياسات والاستراتيجيات. والكلام بالمطلق أن النجاحات وقصصها والتي يتم تحقيقها دوما يكون من خلفها عناصر بشرية مؤهلة وكفؤة ومتعلمة ومدربة ولديها من الخبرة النوعية ما لديها. ولهذا فان بناء المؤسسات يرتكز على القوى البشرية الكفؤة والمتمكنة، والاستثمار في هذه القوى من خلال تمكينها وتطوير إمكاناتها، وهذا أصلا عماد بناء الأوطان.
بيد أن الواسطة –كضدية للكفاءة- تجسر الهوة بين الضعيف والقوي المتمكن من خلال انتزاع حقوق الآخرين والالتفاف على القانون وكسره بالقوة والأخذ بالمحسوبيات وتقوية الضعيف صوريا لا حقيقيا، وهي بذلك تسلك سلوكيات سلبية وغير قويمة في سبيل الحصول على مآرب منها الحصول على الوظيفة أو غيرها. وهذه السلوكيات السلبية تبني المؤسسات على طريق غير قويم وتكّون مؤسسات مهزوزة وضعيفة، ويتعزز فيها الفساد بأنواعه من مالي وإداري وغيره والرشوة والمصالح المتبادلة والنفعية على حساب المصلحة العامة. ولهذا تجد الشللية تستشري وعلى مبدأ “حك لي تحك لك”، لأن الضعفاء لا يقويهم إلا اتحادهم، وهذا الاتحاد لا يكون للبناء بل لتحقيق المصالح والمنافع المتبادلة. كما أن الواسطة تعزز سلوكيات طبقة مقيتة لدى الأفراد وتنمي وازع اللاإنتماء لدى بعض الأنفس المريضة والذين يتطلعون للوطن من خلال مصالحهم الضيقة.
ومن هنا فإننا نجد الأشخاص والثقافة المجتمعية منقسمة بين من هم مع الكفاءة كمعيار نظيف وقانوني، ومن هم مع الواسطة لسرعة الوصول للهدف واستثناء معيار الجودة. والكل يعرف صفات داعمي معيار الكفاءة بأنهم أناس أقوياء وأكفاء وقلبهم على الوطن ومنتمون حتى النخاع ويساهموا في بناء مؤسسي نموذجي لأنهم صوب الطريق الصحيح، ويغلبون المصالح العامة على الخاصة. بيد أن داعمي الواسطة هم أناس ضعفاء النفوس وشلليون وقلوبهم على مصالحهم الضيقة ومنتزعون حقوق الآخرين، وكاسرون للقوانين والمؤسسية، وحاكميتهم ليست برشيدة، وهم أعداء للوطن، ويغلبون المصالح الخاصة والرخيصة على مصالح الوطن.
وربما نتفهم أحيانا بأن يأخذ مسكين أو محروم أو يتيم أو غيره من الفئات المحرومة حقه عن طريق واسطة أعطته حقه، وهذا هو النوع الايجابي الذي نريد. ولكن لا يقبل عقل بأن تستخدم سطوة الواسطة والمحسوبية لانتزاع حقوق الآخرين وبطرق التفافية كثيرة وأعذار واهية. وكذلك ربما نتفهم تعيين بعض الحالات الإنسانية لغايات أن تسد الناس رمقها وتكفيها عن عيشة الكفاف، لكننا لا يمكن أن نتفهم استخدام مبدأ الواسطة والمحسوبية لغايات انتقاء وظيفة سوبر أو فئة عليا لأشخاص غير أكفّاء من الأقارب والأنساب والمحاسيب، لأن ذلك يؤثر على مؤسساتنا ومؤسسيتنا، وبالتالي يتعارض مع مبادئ النزاهة والشفافية والمساءلة ودولة القانون والمؤسسات!
وفي الأردن جرّم جلالة الملك المعزز مبدأ الواسطة التي تنتزع حقوق الآخرين في أكثر من مناسبة، وعزز جلالته معيار الكفاءة وتكافؤ الفرص والاستحقاق بجدارة، مثلما أكّدت كل الوثائق الوطنية على ذلك على الورق. وهنالك قوانين عدة تجرّم الواسطة والمحسوبية، لكننا نرى بأن تفعّل هذه القوانين ويرى تطبيقها النور لردع كل من تسوّل له نفسه في انتزاع حقوق الآخرين ويساهم في بناء مؤسسات وطن مترهلة وضعيفة، وإلا فإننا نراهن على هيمنة الواسطة والمحسوبية على معايير الكفاءة والجودة للعنصر البشري، وبذلك ربما تصبح الكفاءة الحلقة الأضعف وكل يبحث عن واسطة، وهذه الواسطات تتصارع فيما بينها!
وإننا نتطلع أيضا إلى أن نرى ثقافتنا المجتمعية مبنية على ثقافة الكفاءة لا الواسطة والمحسوبية، وذلك من خلال بناء وازع داخلي أكيد لا بتجمل، ومن خلال إيمان عميق بروح فكرة الكفاءة لبناء الوطن النموذج. والمهم في هذا الأمر أن نربّي أبناءنا على ثقافة ومعيار الجودة والكفاءة والمسؤولية والإخلاص في العمل والانجاز لا ثقافة الواسطة والمحسوبية والشللية والوصولية. ولربما يكون هنالك دور كبير للشباب “فرسان التغيير” في هذا المجال، لكننا نؤمن بأن ذلك بحاجة لمزيد من الوقت والجهد، وباطار تشاركي بين المؤسسسات الرسمية والخاصة والمجتمعية وغيرها!
المهم في هذا الوقت بالذات تجريم كل من تسول له نفسه بإنتزاع حقوق الآخرين وتطبيق العدالة في التعيينات والفئة العليا خصوصاً لإستعادة ثقة الناس بأجهزة الدولة الرسمية، وإلا فإننا سنعود للمربع الأول في الإصلاح! * وزير الأشغال العامة والاسكان الأسبق