د. محمد طالب عبيدات
اطّردت حالات العنف الجامعي خلال الشهرين الماضيين وسجّلت أكثر من اثنتين وعشرين حالة تباينت بين المتوسطة والعنيفة، والملفت ليس تكرار حالات العنف الجامعي فحسب بل تطورها وتفاقمها وزيادة حدتها وشدّتها واتساعها أحياناً كمؤشر على عدم اكتراث مسببي هذه الحوادث وعدم اهتمامهم بوسائل الردع أو الوقاية أو حتى العقاب ببساطة لإيمانهم المطلق بفلتانهم من العقاب وتطبيق سيادة القانون بحقهم بسبب سياسة الاسترضاء التي تمارس لتطويق حالات العنف، ولهذا تنفرد جامعاتنا من دون دول العالم بتميزها بحالات العنف الجامعي بسبب غياب الجدية في تطبيق التشريعات إضافة للضغوط المجتمعية والواسطة التي تميّع كل حالات تطبيق القانون والتشريعات ونظام تأديب الطلبة وغيرها لتبقى حبيسة الأدراج.
أجزم بأن مثيري الشغب الجامعي ومسببيه وفاعليه ومبرريه ومروجيه سيان، لأن الأمور وصلت لحد لم يعد يطاق البتة، وكأن الوطن ومؤسساته التعليمية أضحى مشاعاً لزمرة متطرفة لا تمثّل إرثنا أو أخلاقياتنا، وللأسف كأن هؤلاء المتطرفين –والذين لا يمثلون سوى نسبة ضئيلة من مجتمعنا الجامعي لكنهم كالفيروسات صغيرة الحجم فعّالة التأثير- يحملون مفاتيح جامعاتنا ليغلقوها عنوة في الوقت الذي يرغبون، ولكننا اليوم أمام تحدّ كبير لوضع حدّ لهذا الاستهتار الذي يحوّل جامعاتنا من مراكز بحث وحاضنات علمية متميزة لبؤر لإشعال فتن اجتماعية وإعطاء صور قاتمة عن نظامنا التعليمي ويسهموا في تراجع سياحتنا التعليمية ومعدلات نمو اقتصادنا الوطني، فعندما تصل الأمور لضرورة ضبط الفوضى والفلتان في الجامعات يصبح الخطأ بحق الوطن والخيانة الوطنية سيّان!
المطلوب الآن أن لا نضع رؤوسنا بالرمال أو نمرر الأمور و”نطبطب” عليها أو نذكر أسبابها فقط لأننا سئمنا سرداً للأسباب والمسببات، لكن المطلوب هو وضع حد لحالات الاستهتار في العنف الجامعي ووضع حلول واقعية وعملية، ووضع خط لوقف كل تهاون أو لا مبالاة في تطبيق التشريعات النافذة، وبالطبع لا يمكن أن يتم ذلك إلّا بتعاون وتشاركية بين أجهزة الدولة المختلفة والمجتمع برمّته والأهل والشباب ومؤسساتنا التعليمية والقضائية والتشريعية والأمنية، وأخال أن مجلس الأمة بإستطاعته عمل الكثير في هذا الشأن لوقف التدخّل بالجامعات والواسطات وتغليظ العقوبات على كل مَنْ تسوّل له نفسه بالعبث بأمن جامعاتنا، وإن كانت المسألة ليست بالتشريعات الناظمة لضبط العنف بل بتطبيقها وتنفيذها على أرض الواقع.
نحتاج لميثاق شرف وطني ومؤتمر وطني لنبذ العنف المجتمعي والجامعي وذلك لتفعيل التشاركية الحقيقية بين أفراد المجتمع كافة، ونحتاج لتكاتف وتضافر الجميع لوضع حد لاستهتار الشباب ومَنْ خلفهم في مراكزنا التعليمية التي نعتز بها والمستوى الذي وصلت إليه، ونحتاج للغوص في بحر الجذور المسببة للتطرف عند البعض في الجامعات، ونحتاج لتفعيل لغة الحوار الطالبي بين الشباب، ونحتاج أن لا نكيل بمكيالين بالتعامل مع حالات العنف صوب لغة سيادة القانون، ونحتاج لبيئة جامعية جاذبة ترعى التميز والإبداع وتجرّم الواسطة والمحسوبية والعنف، ونحتاج لضبط الوسائل الوقائية التي تُحيّد العنف الجامعي، ونحتاج لتطبيق سيادة القانون، ونحتاج لرزمة أنشطة ثقافية ورياضية واقتصادية وسياسية مُنظمة لاحتواء إبداعات الشباب واستثمار أوقات فراغهم، ونحتاج لتشاركية الأردنيين كافة لكبح جماح آفة العنف الجامعي والمجتمعي، ونحتاج لمدرس جامعي كفؤ ونموذج وقدوة أمام طلابه ليشذّب بعض السلوكيات الخاطئة والمتطرّفة، ونحتاج لدور فاعل لعضو هيئة التدريس ميدانياً وبحثياً وسلوكياً، ونحتاج لإدارات جامعية متفهّمة ومنفتحة وتؤمن بالحوار والأبواب المفتوحة ولها تواصل مع طلبتها، ونحتاج لاتباع الوسائل المختلفة لنبذ الغلو والتطرف والعنف وتجذير لغة الحوار والثقافة المجتمعية النابذة للعنف، ونحتاج ليكون كل مواطن رجل أمن إضافة لتعزيز مبادئ المواطنة والانتماء والولاء والاعتزاز الوطني والهوية الوطنية الأردنية والمحافظة على الوحدة الوطنية والاندماج الاجتماعي، ونحتاج لمواجهة النزعات الشللية والتطرف والغلو وأحادية النزعة، ونحتاج لبرامج -وليس لكتب ومناهج فقط- للتوجيه الوطني وغرس مفاهيم الإنتماء للوطن، ونحتاج لدور فاعل لعمادات شؤون الطلبة لتكون قريبة من الطلبة ولهم لا عليهم، ونحتاج لدور إعلامي وطني مسؤول للمساهمة في حل المشكلة المتفاقمة، ونحتاج لحس وطني مسؤول عند الجميع لنخاف الله في هذا الوطن ونَعُضّ بالنواجذ على منجزاته الحضارية، ونحتاج الكثير أيضاً.
إننا ما زلنا مع إيجاد البيئات الوقائية للحد من العنف الطلابي، لكننا بنفس الوقت نؤكد تطبيق الأنظمة الناظمة لضبط الحياة الجامعية الآمنة والبيئة الجامعية الإبداعية بشفافية وبعدالة ليأخذ كل ذي حق حقه ولتستقيم الحياة الجامعية ولا يتطاول أحد ويتجاوز على حقوق غيره، ولتبقى الجامعات منارات فكر وحاضنات إبداع وتميز؛ كما دعا الى ذلك دوماً جلالة الملك المعزّز عبدالله الثاني ابن الحسين المعظّم.
* وزير الأشغال العامة والاسكان الأسبق