د. محمد طالب عبيدات
يعتبر مفهوم ثقافة التنمية عصرياً في عالمنا العربي، إذ أنه يتخطّى كلاسيكية اللغة والمفاهيم الدارجة للتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ليضرب في جذور الابتكار والإبداع والفكر كامتداد للتنمية البشرية، ويحاكي الرؤى كافة لتوظيف كل الجهود لتحسين وتجويد الظروف المستقبلية بما يخص التنمية الشاملة والمستدامة، كما أنه يدخل في باب أنسنة الإنسان وانعكاس نتائج التنمية على تطوير القدرات الإبداعية للناس وتجويد الخدمة المقدمة لهم، إضافة إلى زيادة وإطّراد وتيرة الوعي الإنساني.
فالثقافة معيار يحدد الهويّة لمجتمعاتنا، وسواء أكانت هذه الثقافة جامعة أم فرعية فكلاهما يصبّ في بوتقة ثقافة الفرد والمجتمع، بالرغم من زئبقية وعدم مفهوم الثقافة، ولهذا دخل مفهوم ثقافة التنمية ليشكّل ويؤطّر حالة الوعي والجهد الذي يُحدث التغيير والوعي في الفكر والسلوك الإنساني صوب الابتكار والإبداع للتعامل مع المتغيرات العصرية وللمواءمة بين حالتي الأصالة والمعاصرة للتأقلم مع المتغيرات.
وقُدّر لي أن أترأس الجلسة الافتتاحية الأولى لمؤتمر ثقافة التنمية في جامعة فيلادلفيا والذي يندرج تحت هذا الإطار وبمشاركة عربية ودولية واسعة وكان عنوان الجلسة: الاطار النظري والمفاهيمي في ثقافة التنمية. وداخلتُ العلماء الحضور حول ضرورة وضع إطار للتحدي الرئيس: 'بناء مشروع نهضوي عربي لثقافة التنمية لتتعدى مفهوم التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية'، والحفاظ على الهوية الوطنية والعربية والاسلامية والمواءمة بين الاصالة والمعاصرة وضرورة وضع الخطاب التنويري حيز التنفيذ للقضاء على أوجه الأمية الثقافية، ورسم تطلعات مستقبلية ابتكارية.
فالفكر التنويري أساسه ثقافي تنموي، وبالرغم مما حقق ما يدعى بالربيع العربي صوب المطالبية بالحرية ودعوات الإنفتاح والديمقراطية إلّا أنه على الأرض رسّخ مفهوم الحرية اللامسؤولة وثقافة الفوضى وثقافة التظاهر في الشارع وحرق الإطارات وإغلاق الطرق في كل المناسبات، وهذا بالطبع تماماً عكس ثقافة سيادة القانون التي تضبط السلوك الإنساني وفق القوانين المرعية ومظلته الدستورية، وكأنّ نتيجة ثقافة الربيع العربي معظمها سلبية ولم تحقق نمواً إقتصادياً أو سياسياً ولم تنعكس على حالة الوعي لدى المواطن العربي؟
وبالطبع تعاني ثقافة التنمية في عالمنا العربي ما تعانيه من معيقات للتقدم الثقافي تتلخص بالتعليم التقليدي والتلقيني الخالي من التفكير الإبداعي عند البعض، وانتشار الأمية الثقافية –التي تتعدّى الأمية الأبجدية- والأمية التكنولوجية أحياناً لدرجة أننا أصبحنا متلقي خدمة ومستخدمين نهائيين للتكنولوجيا، إضافة لظاهرتي الفقر والبطالة والتخلف الاقتصادي اللذين يؤديان حتماً لحرمان الناس من حقوقهم الثقافية، وغياب الديمقراطية الحزبية الحقيقية والحياة المدنية في بعض المجتمعات العربية، وغيرها من المعيقات.
فالتعليم والشهادات لوحدها دون مهارات وتقنية وتكنولوجيا وابتكار لم تعُد تجدي نفعاً في زمن الألفية الثالثة - زمن المهارة لا الشهادة-، ولهذا فنحن بحاجة لربط التعليم بضرورات الحياة واعتباره منظومة متكاملة لا جُزئية ليستخدم الناس عقولهم بفعالية، وبحاجة لاستلهام الأصالة وربطها بالمعاصرة، وبحاجة أن يأخذ الإعلام دوراً تنويرياً لا ابتزازياً من خلال كيل التهم الجزاف أو إغتيال الشخصيات، وبحاجة لترسيخ الثقافة العلمية والإبداعية والابتكارية الداعمة للثقافة الإنسانية، وبحاجة لمنظومة واستراتيجية متكاملة للقضاء على الأميّات الثقافية بأنواعها والمنتشرة في العالم العربي، وبحاجة لتغيير متدرّج في ثقافاتنا لتواءم لغة العصر، وبحاجة للمحافظة على منظومة قيمنا الإنسانية التي أوشكت على الانهيار.
المشروع النهضوي العربي لثقافة التنمية يجب أن يكون شاملاً لا نُخبوياً أو جزئياً، بحيث يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبشرية والديمغرافية والتربوية والقيمية لينعكس على حالة الوعي العام للإنسان العربي صوب ثقافة هويّة التميز والإبداع
*وزير الأشغال العامة والاسكان الأسبق