باسم سكجها
تعوّدنا، أخي أحمد سلامة وأنا، أن نتبادل الرسائل في الحلّ والترحال، وعلى مدى خمسة وثلاثين عاماً كتبنا الكثير الذي لو جمعناه لاستغرق مساحة كتاب معتّق بالبوح، وفي كلّ رسائله كانت بلدته ومبتداه بديا هي الحنين المُزمن، وظلّت مدينتي القُدس هي الجرح المفتوح.
أحمد، الآن، في بديا، بعد غياب يكاد يلامس نصف القرن، ويفاجئني أمس برسالة تبدو مشروع كتاب جديد، سيذكّرني بكتابي :”أيام رمادية”، الذي كان دمعة حارّة تجمّدت في عيني، وأنا أجلس على رصيف مقابل بيتي المقدسي.
ولا أترك فُرصة نشر رسالة العزيز أحمد، في مساحة مقالتي هنا، تمرّ، حتى دون أن أستأذنه، ففيها من عبق البوح والتاريخ والحميمية ما ينبغي تعميمه، وألّا يظلّ حبيس ذاكرة شخصين إثنين فحسب…
هنا ما كتبه الأستاذ أحمد سلامه:
“على مهل، إنحنيت على ( بويب ) كنيسة الميلاد المذهلة التي تُغني على مهل للقمح والحور والزعتر .... حين أذن الحارس الدهري لـ ( مجاهد سلامة ) خصلة الريحان، في عشيرتي وبوابة البهاء فيها .... الوقوف في الساح العارمة بالناس والأعراس، وأخذ ( العباس ) المناضل الطبقي والوطني والسجين الدائم في ظلام سجن يهود ... وضعاً للتصوير، وباشر الرزق الحلال للجيل الجديد والحكيم الرزين ... التعبير عن فرحته بلمّتنا، التي تشبه النور والنجوم، كونها حلماً كان قبل الوقوع .. بين الإنحناء والعرس التلحمي.
كان بيني وبين كنيسة المهد أمس قصة همس داخلي يشبه الناي والحزن والحب والتأمل ... ولا أعرف لِمَ قفز إلى روحي في ومضة مفاجئة: جبرا ابراهيم جبرا، وجبريل الرجوب معاً، كذلك خيّمت على كل كياني روائح باسم سكجها. كان كلّ باسم قد صار صليباً لأنّ قصة يشوبها الحزن والحذر والحب قد إقتحمت عليّ خلوتي ( اللندنية ) في عيد الميلاد المجيد، فراسلت باسم بمقالة فريدة ومحبة متكئاً على أغنية مصرية لسيد الحداء والغناء سيد درويش، وتخيّرت عنواناً: ( سرقوا الصليب يا باسم لكن مفتاحه معانا )، إنتقدتُ فيها بضراوة التوحّش الغربي في إنقضاضه الدائم على عروبتنا. كان ذاك قبل قرابة ربع قرن .. ولم يقع في خلدي أن تلك الجموع المترامحة صوب الباب، باب كنيسة المهد أعني، قد فجرت فيّ ذاك الإحساس بالعودة ثانية إلى ملاذي العربي. الشموع المعروضة للبيع، وباقات ورود رهيبة في طلاوتها، تنتشر في القاعة المجاورة، والإدلاء السياحيون منهمكون في عرض بضاعتهم المكررة دون إحساس بها ... وحين أدرك القول أحد الشراح في بهو الكنيسة الساكن الواثق ببلاطاته المتمادية في الأبد: (وحين جاء الصليبيون، وأشار إلى بقية صليب في أعلى الجدار الأيمن ) إسترقت السمع، وأحسست أنه قال: ( حين مرّ الصليبيون من هنا ) أحسست أن عروبة الكنيسة في بيت لحم تهبني الزعم واليقين معاً، أن مترجماً ذكياً سيقول بعد سنين:(حين مر اليهود من هنا).
لم أتجرع طعم ( بغض الاحتلال ) على مدار الساعات التلحمية التي قضيتها في كنيسة المغارة الأبدية، ولم أتذكر سطوته. كانت بيت لحم في الكنيسة تلملم أزهارها وتشطف بلاطات قاعاتها إيذانا بعرس قادم يبعد بعد لحظات.
نهرني، دون أن يرقّ بشيبتي، ذاك القندلفت التلحمي، حين جلست على كرسي داخل القاعة لبعض الراحة، قال: (هذا مكان صلاة وليس مخصصاً للراحة). أول مرة في حياتي تدهشني الغطرسة، وأحببتها ضدي، ولم أردّ قط. كان علياؤه يشبه العروبة والنزق القومي البهي ...
رحلة بيت لحم، هندسها بطريقته التي تروح بك مباشرة إلى النتيجة، ولا يحفل برونق الإضافات: (خذوا أحمد
إلى بيت لحم والخليل. وأشاد بعيني وقلمي، وقال: علّه يرى ما لا نرى، والتمس أن أزور القدس. واعتذرت بأدب عن الدعوة. قال لي: لماذا... لا تود الذهاب إلى القدس ؟! في لحظة واحدة، إجتمعت في عقلي، ثلاث صور:
حاكم الخريشة، الباشا الذي روى بجراحاته السامية الخامس من حزيران، وتلاوته علي ترتيلاً تلك اللحظات لجيشنا المصطفوي، الذي خذلته سياسة العرب، فلاذ ببنادقه وشرف انتساباته القبائلية التي تهب الروح فداء للسمعة.
ودمعة من الحسين، عطّر الله روحه بقبس من رحمته، ذات ورع صوفي على شرفة بيته في الهاشمية، وهو يرنو إلى القدس، وكنت معه، وأدمع دمعاً جرى قطعة من رذاذ يخلّد حزنه.
وثالثة: ضعف الحال، وتجبّر الآخر فينا: (لا أريد أن أرى القدس من تحت غيم إحتلال)، وعلى حين غفلة، تحول ذلك الثوري المدجّج بالإرادة .... إلى طفل فلسطيني جميل. حدّق فيّ على طاولة عشائه الكريم في رام الله، وقال بطفولة تشبه روحه الثورية ( فهمت عليك ،،، إذهب إذن إلى بيت لحم ونابلس والخليل لترى البسالة في الصمود والبواسل على الأرض ....
كانت المهد، بعد رام الله، أول حكاية الكتابة، وعلى وقع تحذيرات وتعاليم الباشا يوسف الصديق طبيبي وحبيبي، دخلت مذعناً إلى منزل إبنة عمي عزة عودة سلامة ... مع الغروب، وعراقة الذكريات في الدروب، دلفتُ لأروي ظمأ الشوق في نابلس. فيها تناولنا الكنافة، وعدنا إلى بديا ليلاً، وتلك
حكاية أخرى، وللحديث مبرر لاحقاً”.