الشاهد -
بقلم اسامه الراميني
قبل ثلاثة عشر عاماً ، شهد شارع الصحافة مولوداً جديداً بكامل الأوصاف إسمه "الشاهد" فالأسم جاء مكتوباً وكأنه قدر التصق مع الوليد الجديد .. حينها توقع الجميع ، أن الوفاة هي النتيجة الحتمية لهذا المولود الذي كان مخاضه صعباً مريراً فالوسط الصحفي يعج بصحف "تابلويد" والاسماء كثيرة وتملأ شارعنا ... اسئلة عديدة بعضها مغرض وبعضها الآخر حاقد يدور عن سر هذا المولود الجديد ومبرراته والحاجة منهُ ، والكل توقع ان يموت الشاهد في بطن أمهِ جراء نقص الأوكسجين الذي سيصيبه بالشلل مقدمين النصائح ، بضرورة اجهاض الولد او وأدهِ او قتلهِ حياً ، لكن وبعد هذه السنوات ماتت كل الصحف الاسبوعية وانتهت وخرجت من المعادلة بإستثناء الشاهد التي رفعت يدها شعاراً ونهجاً ومعركةً . نعم بقيت الشاهد ومات الجميع فالأعمار بيد الله وهذه سنة الحياة .
الكل كان يعلم بأن الجريء القوي لامكان لهُ تحت الشمس ولا مستقبل لهُ أبداً ، فالاجواء حديدية وزهر الرمان مجرد صورة والقمع سيد الموقف ، والخصوم يتكاثرون مثل الفطر السام والاعداء من الاصدقاء والاقرباء والغرباء ، يجهزون اقسام اسحلهتم ويصوبونها بإتجاه أي شيء ، نعم "البوليس" السري والعلني كان يخطط دوماً لقتل هذا المولود لمسخهِ وشل حركته لأنهم كانوا يريدون منهُ ان يتنفس قليلاً من الاوكسجين والكثير من ثاني أوكسيد الكربون .. يريدونهُ ان يعيش على "الاجهزة" ، ويتحرك فوق مشيئتهم وإرادتهم وجبروتهم وقوتهم ونفوذهم ومزاجهم ، لكن هذا المولود تحدى الطبيعة وعاند القدر فهزم المعادلة وقوى عظامهُ فشرب حليب السباع فكانت علامة قوتهِ الصرخة التي يطلقها المولود احتجاجاً او رفضاً للواقع .. فالشاهد ليس مجرد كلمات وحبر واوراق إنها صرخة ويد مرفوعة نحو السماء لاتشهد إلا بالحق وتقول كلمتها ولاتمشي فهي الضمير المتصل والحواس الخمس وخارطة الوطن وشجرة اللوز والمنجل وشاكوش العامل وأذان الصبح والطابون والزيت والزعتر والشرف والكوفية والعقال المرفوع على الرأس .
نعم جريدة الشاهد قصة ثورة وعنوان لميدان التحرير وقصيدة شعر لأبي القاسم الشابي وعلم يرفرف في شارع الإستقلال وجبل ازداد قوة في زمن التعرية إنها وطن يتحرك وينبض ويواصل صرختهِ في الوقت الذي كان ينبطح بهِ الجميع ويحبو به الجميع من أجل مغنم او مكسب او منصب او قلادة ، او حفنة دنانير ، هذا الشاهد لم يعد جنيناً وليس ولداً بل شاباً يافعاً بلون الوطن ولهجتهِ وصورتهِ وضحكتهِ ، عايش الظروف الصعبة وتحدى الخصوم وجابه الاعداء ، فكانت اليد أمام المخرز وكانت قوة الإرادة امام إرادة القوة ، كان صادقاً صدوقاً قريباً من الناس فهو لسانهم وضميرهم وعينهم ، تلقى الضربات وعايش الأوجاع وكابد الهم وتحدى الغم ، بعد ان حاولوا ان يجرعوه السم ، حاولوا ان يقتلوا هذا المولود فاجتمعت كل القبائل السياسية الفاسدة من أجل هدر دمهِ ليضيع دمهُ وليخمدوا صوتهُ وكل حركتهِ .
لن تمطر السماء ازهاراً لكن الزهر كان يحتاج إلى شجر ، فالشجرة تعرضت للقطع والضرب والتحطيب ، لكن زهرة الشاهد نبتت ، في كل الحروب التي نؤجل بعضها عندما لانستطيع تفاديها ، لأن الحياة كانت تحتاج إلى ذلك .
قصة جريدة الشاهد ، قصة معذبة لكنها عذبة .. قصة مواطن يعبر عن وطن، قصة شجرة اثمرت من الأرض ، وقصة حكايا لابد ان تروى ولابد ان تقال فهي الوحيدة التي استمرت وتصاعدت وبقيت فيما الأخريات اختفين، وتنازلن ، وابتعدن بعد أن سلموا اصحابها المفاتيح بعد ان تحولت مشاريعهم إلى تجارة لا إلى رسالة فمشروعهم خسر ولذلك فقد اغلقوه او باعوه او أخفوه او اجلوه بعكس الشاهد التي آمنت بنفسها انها رسالة وتاريخ ووطن ودين فبقيت في كل الظروف بالرغم من كل الدسائس والمؤامرات والضرب من تحت الحزام والتكالب عليها من المسؤولين السابقين والقادمين والوزراء الحاقدين ومن المدراء المتسلقين .. دبروا لها المكائد وبطشوا بتاريخها ودمروا منجزاتها وتأمروا على مستقبلها .
جريدة الشاهد كانت متهمة دوماً بسبب عدم قدرة الأقزام على مواجهتها او التصدي لها ووقف نارها ونورها ، فاتهموها بكل الإتهامات فتارة قالوا عنها انها امريكية ، مدعومة خليجياً ومرات بأنها فرع لدائرة المخابرات ، او أنها ممولة من أموال النفط وعباءات الخليج ، واخرى واخرى واخرى واخرى ، ومازالت الإتهامات تتواصل فهي جاهزة ومعدة سلفاً ومطلقوها يتكاثرون في السر والعلن ، من بيننا ومن خلفنا من هنا وهناك ، ومع ذلك صمدت الشاهد وتحدت الجميع وبقيت فيما الآخرون بعضهم مات بحقده وبعضهم اضطر ليهادن او يتراجع اويعترف بالحقيقة ، نعم كبرت الشاهد وأصبحت عملاقة تتسيد خارطة المشهد الإعلامي ، فهي مدرسة إعلامية تعلم الشجاعة والجرأة وكتابة الخبر ، أما اعداؤها فقد طواهم الزمن ونسيهم .
هذه الإمبراطورية لم تكن نبتة مفاجئة فصاحبها أمبراطور وربان إسمه صخر ابو عنزة الذي انتج مشروعاً وطنياً إعلامياً بسواعد أردنية made in Jordan أضافه واعتبره مثل أبنائه معاذ وسعد ، لابل كان يقول والله الشاهد اهم من معاذ وسعد لأنها تدافع عن وطن وعن هوية ، فكبرت الشاهد على يد الصخر فكانت قلعة من صوان ، حبرها ديناميت وبارود ولونها علم يرفرف ...صخر ابو عنزة كان يؤمن بأن اكثر مايتعب الإنسان الوقوف في مكانه ولذلك تقدمت الشاهد ، وتخطت وتحدت ، فكانت في المقدمة ، ولذلك فكان الصدق هو شعارها ، وشعار ابو عنزة الذي قال ذات يوم : اولى لك ان تتألم لاجل الصدق من ان تكافا لأجل الكذب ، فصدق كان لهُ ثمن وفاتورة ، لأن الشجرة العاقر لايقذفها احداً بحجر فكثرت الحجارة , والوشايات ، والمؤمرات ، والدسائس ، ومع ذلك بقيت الشاهد شمعة مضيئة ، في عالم يسوده الظلام ولأن صخر ابوعنزة امن بمقولة يسخر من الجروح كل من لايعرف الآلم كما أنهُ أمن بأن الصحيفة التي تزحف لاتستطيع ان تطير خصوصاً ان في اول الحياة وفي اخرها محمل على الأكتاف ، فصخر دخل السجن والمعتقل وقيدوه بالسلاسل والبسوه البدلة الزرقاء وقطعوا عنه الماء والكهرباء ونفوه إلى الصحراء وهددوه بلقمة الخبز ان بقى على هذا الكبرياء ، تأمر عليه الرؤساء والمدراء وخصوم الظلماء حاولوا ان يخنقوه ويقطعوه ويكسروا رأسه ، لكنهُ كان يخرج في كل مرة اقوى مما كان ، كيف لا وصخر كان يؤمن بأن طريقه لن تكون سهلة فهي مليئة بالحجارة لكنهُ لم يتعثر بها بل كان يجمعها بذكاء ودهاء ليبني بها سلماً صعدت بمشروعه إلى العلياء ... صخر ابو عنزة هذا الاشقر الطويل قامته علياء ، وكان الأقزام يستغربون من طول هذا الرجل ويستغربون اكثر من قامتهِ ، لكن كنت أعلم الإجابة وهذا الإستغراب ، فمارتن لوثر كنغ كان يقول : لا يستطيع احدٌ ركوب ظهرك إلا ان كنت منحياً فلا والله صخر او الشاهد إنحنت ذات يوم ، كنا نخفض الرأس قليلاً لكن لاننحني ، الشاهد كانت ناراً ولم تكن حريقاً . فهي نور بطعم النار ، وشمس دافئة بطقس الوطن .
كل الذين عادوا الشاهد او مارسوا دور الغراب عليها ، او من حفر حفرة لها كانوا في جانب الخسارة لأن الشاهد هزمتهم في عيدها 13 وستتجاوز بإذن الله كل المطبات وستبقى شاهدة عليهم وعلينا وعلى الوطن فهي لن ترضى إلا أن تكون شهيدة لهذا الوطن الغالي ، فبعيدها 13 أصبحت لوحدها دون غيرها , وكأن العمر والبقاء لها ، لأنها حية لاتموت فهي من ملائكة الوطن وجنده الاوفياء . وكل عام وصخر والشاهد وكل العاملين بها بألف خير ، وسنة حلوة ايتها الشاهد أيتها الشهيدة . التي كنتِ بها مصنعاُ للرجال خندقاً أمامياً للوطن ومخرزاً في عيون كل الحاقدين والساقطين والمرتشين والفاسدين .