رحيل غرايبة
العنف يمثل احدى طرق التعامل غير الصحي وغير السليم بين الأفراد والمكونات الاجتماعية ، ويظهر و يتمدد و يفشو في المجتمعات التي يقل فيها منسوب التحضر، و يصبح ثقافة عامة أحيانا على المستوى الشعبي و على المستوى الرسمي ؛ في الشارع والسوق و في السجن على حد سواء، و بين الصغار و الكبار، و بين أتباع الايدولوجيات المختلفة، و لذلك فان المعادلة القائمة بين العنف و التحضر تقوم على التناسب العكسي، و بناء على ذلك ليس هناك مفاجأة في رؤية استخدام العنف طريقاً لمعالجة الاختلافات عندما تمر المجتمعات في حالة تخلف حضاري، سواء اكان ذلك بين العاملين في كراجات تصليح السيارات اوبين طلاب العلم في المدارس و الجامعات، ولكن الخطيئة الكبرى عندما يقدم رجال الأمن على استخدام العنف، لأن وظيفتهم في الاصل تقوم على معالجة العنف و معالجة أثاره، والحيلولة دون وقوعه قبل أن يقع.
الطريق لمعالجة العنف في المجتمعات تتمثل في العمل المشترك على تحضير المجتمعات بشكل جماعي، من أجل أن يصيح التعامل الحضاري ثقافة عامة أصيلة في المجتمع و تقوم على أعراف راسخة لا تقبل الاختراق أو التساهل، و لا يجوز التهاون في تطبيق العقوبة الرادعة على من يكسر قاعدة التعامل المتحضر في الأسرة و البيت و الشارع و المدرسة و الجامعة و البرلمان و في كل أماكن اللقاء و الاجتماع البشري، و عملية التحضر تقوم على معنى الشمول و التكامل في كل المسارات و في جميع المجالات، و لذلك يبدأ في عملية التربية و التعليم و التعلم، بحيث تتم التنشئة على نبذ الاعتداء و عدم اللجوء الى استخدام العنف والقوة في تصفية الخلافات، مما يقتضي وضع مسافات تربوية منهجية متدرجة في الروضة و صفوف المدرسة الى الجامعة و في كل معاهد التدريب المهني وفي جميع مجالات الاعداد للحياة.
التحضر في الأصل هو نفسي معنوي، وخلقي و فكري و ثقافي، قبل أن يكون في المظاهر المادية المتجلية في مستويات البناء و استعمال السيارات الفارهة و أدوات المدنية الحديثة، فالتحضر يجب أن يبدأ في داخل الانسان اولا ، و يصبح جزءاً من منظومة المسلمات الانسانية لديه ومن ضرورات الاجتماع البشري، و مسألة التحضر ينبغي أن تكون محل اتفاق جميع الأفراد وكل المكونات الاجتماعية والاطياف السياسية بلا استثناء، و أن لا يشكل الاختلاف الديني و المذهبي و الفكري و السياسي والعرقي عائقا امام التوافق على قيم التحضر المجتمعي.
ربما تكون نقطة البدء في هذا السياق هي تحويل الأفكار و المبادئ الى قيم مطلقة قائمة على تمثل مصالح المجتمع التي لا يختلف عليها العقلاء، و تجد طريقها نحو التمثل السلوكي المتحضر في اللقاء والبيع والشراء والحوار والتعلم والسكن والجوار, بحيث ينتفي الخلاف حول قيم الكرامة الآدمية والمساواة الانسانية, والتزام الحقوق واداء الواجبات ومعرفة الحدود, والتوافق على قيم الصدق والامانة واتقان العمل ونبذ الغش والتزوير والتحايل ، والابتعاد عن الخُيلاء والاستعلاء والتكبر, وعند الخلاف ينبغي الاحتكام الطوعي للقانون والخضوع للقضاء بكل طواعية ويسر وسهولة, وهنا تتجلى وظيفة السلطة الحقيقية بحفظ هذه القيم ومنع الاعتداء عليها, واداة السلطة هي رجال الامن العام الذين يجب ان يخضعوا الى التدريب على اعلى مستويات الانضباط والتحضر, وان يتم تحريم استخدام العنف بشكل حاسم ومطلق الا في حالات الضرورة التي تقضي بالدفاع عن النفس في حالة مواجهة المسلحين المتمردين على القانون وعلى منظومة القيم المجتمعية.
القرآن الكريم افرد مساحة واسعة لتدشين عملية التحضر الجماعي للكيان العربي الجديد الذي تشكل على يد النبي محمد عليه الصلاة والسلام من خلال التركيز على كيفية الحديث والخطاب وآداب التعامل أكثر من التركيز على مسائل السياسة والسلطة على أهميتها.
فقال تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون).
وقال: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك ان أنكر الأصوات لصوت الحمير).
وقال: (ولا يغتب بعضكم بعضاً ولا تنابزوا بالألقاب), (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوأ خير منهم ولا نساء من نساء عسى ان يكن خيراً منهن..)
أردت من هذا المثال أن ابين اهمية البدء بخطوة التحضر المجتمعي, من أجل ان نتقن حرفة العيش أولا, قبل ان ننطلق الى عمليات التحضر الكبرى وتعظيم الانتاج الزراعي والصناعي واستخدام ادوات المدنية المادية الراقية.