د. رحيل محمد غرايبة
كان التعجُّل واضحاً وبيّناً لا يحتاج الى كبير جدال في قرار التعليم العالي الذي يقضي برفع معدلات القبول في تخصص الشريعة إلى 80%، ولم يكن قائماً على دراسة علمية متأنية، ولم يتم الاعتماد على الدراسات المسحيّة المتعلقة بهذه القضية ،ولا
على منهج الاستقصاء العلمي، كما لم يتم التشاور بطريقة واسعة ولا جادة مع أساتذة العلوم الشرعيّة أو مع الطلاب وأولياء الأمور وأرباب المؤسسات ذات العلاقة والاختصاص، وربما جاء القرار مبنيّاً على انطباعات وأقوال شائعة يطلقها بعض اصحاب الاجندات حيث انها تفتقر إلى الصحة والدقة، وربما أيضاً جاء القرار في ظروف البحث عن عوامل ظاهرة التطرف ومعالجتها في المجتعات العربية ، التي ينتسب بعضها إلى الدين أو الإسلام على وجه الخصوص، في ظل بروز الجماعات الدينية المتطرفة التي استخدمت طريق العنف والقوة في تحقيق أهدافها في التغيير.
في البدء يجب أن نطلع على المعلومات وبعض الدراسات التي أجريت على عناصر المجموعات المتطرفة وتبين أن نسبة قليلة جداً ربما لا تصل إلى 2-3% من هذه العناصر لديها شهادات في علوم الشريعة، أوحد ادنى من الالمام بعلوم الشريعة، وكانت المفاجأة أن أصحاب التخصصات العلمية مثل الهندسة والعلوم الطبيعية والكمبيوتر حازوا على النسبة الأعلى في عضوية هذه الجماعات، وهذا يحتم علينا جميعاً وعلى أصحاب القرار وأهل المسؤولية في هذا المجال على وجه الخصوص أن نبتعد مطلقاً عن الربط بين دراسة العلوم الشرعية والدينية والتطرف، ويجب محاربة الانطباع الذي يحاول الصاق العنف بالدين وعلوم الشريعة بوجه من الوجوه، بل على العكس تماماً فإن المتطرفين يغلب عليهم الجهل بعلوم الدين والفقه بوجه خاص.
المسألة الثانية إذا كان الهدف من رفع معدل القبو ل الجامعي من اجل رفع مستوى دارسي الشريعة وخريجيها بحيث يكون مقتصراً على الأذكياء وأصحاب المعدلات العالية، فهذا أمر يحتاج إلى معالجة علميّة عميقة وبطيئة ومتدرجة وشاملة، تعتمد على اجراء أبحاث ودراسات متخصصة تحيط بالمسألة من كل جوانبها بعيداً عن التسرع والتعجل والخطوات الانطباعية السطحيّة، حيث أن رفع معدل القبول في مختلف التخصصات يقوم على المنافسة والعرض والطلب، والمنافسة تتولد من خلال النظر في أحوال المتخصص بعلوم الشريعة بعد تخرجه من حيث مجالات العمل، والدخل المادي والمكانة الاجتماعية ومجالات التأثير والابداع في عمليات البناء والاصلاح والتغيير وحقيقة الدور الاجتماعي ،بالاضافة الى العوامل الثقافية التي تؤثر في البيئة المحيطة، وان غض النظر عن هذه العوامل وإغفالها هو السبب الأعظم في الوقوع في القرارات المتسرعة التي نشاهدها.
وفي هذا المجال يمكن الوقوف على بعض الأمور التي تتعلق بهذا الشأن بوجه من الوجوه، منها على سبيل المثال وليس الحصر:
-البدء بالتشديد على معايير اختيار الأساتذة وأعضاء الهيئة التدريسية اولا، ولو كان معيار الحصول على معدل لا يقل عن 80% في الشهادة الثانوية كشرط لإتمام الدراسات العليا لكان ذلك صحيحاً ومقبولاً ومنطقيا ، لأن هناك تناقض كبير بين اشتراط حصول الطالب على 80% بينما الاستاذ والدكتور الذي يدرّسه ربما كان من أصحاب معدلات 55% أو 60%، وهذه هي الطامة الكبرى، لأن المنطق يقتضي التساهل في جعل دراسة البكالوريوس متاحة لكل الراغبين من الناجحين، لكن ليس من المنطق التساهل بذلك بحق مشاريع العلماء والأساتذة الكبار واصحاب الشهادات العليا الذين يشرفون على صياغة العقول العلمية وتخريج الأكفاء والمبدعين.
-الأمر الثاني يتعلق بالمناهج والخطط الدراسية للتخصصات الجامعية التي تتغير ببطء شديد يجعلها غير قادرة على مواكبة التغيرات المذهلة على الحياة وعلومها ومجالاتها، ودورها الحقيقي في صياغة العقول و فعلها الإيجابي في احداث النهضة والتطور المطلوب، وتكمن المشكلة عندما تصبح بعض مواد الشريعة بعيدة عن الواقع المعيش ولا تلامس احتياجات المجتمع المتغيرة.
-الأمر الثالث يتعلق في كيفية إزالة الانفصام النكد بين التخصصات العلمية والاجتماعية والإنسانية من جهة وبين الدراسات الشرعية والدينية من جهة اخرى ، بحيث ادى ذلك الى جعل خريجي الشريعة عبارة عن فئة معزولة عن مجتمعها وكأنهم جزء من التاريخ السحيق، ولذلك يجب التفكير الجاد بوضع برامج وخطط جامعية شاملة تجعل الخريجين جميعا جيلا موحدا و متجانسا ومتكاملا في عملية البناء المجتمعي ،وان تكون علوم الشريعة والثقافة الاسلامية وتراثها الحضاري جزءاً من التكوين العلمي للخريج الجامعي مهما كان تخصصه، بعيدا عن عوامل الاستقطاب والانقسام المجتمعي الحاد المؤلم والمرعب