ناديا هاشم / العالول
بسهرة رمضانية ثقافية استمعنا منصتين الى المحاضر الجليل الذي خاض بمحاضرته معلنا عنوانها حال جلوسه مستهلا حديثه : قد شهد العرب قديما نقلة نوعية من حياة البادية والقبائل الى حياة التطور والازدهار والقوة والمعارف ولكن بعصرنا الحالي نشهد نكسة وازمة خطيرة بتراجعنا مقابل تقدم باقي الدول، ورجوعنا الى التخلف والجهل والأمية..
تساءل المحاضر الجليل عن سبب تراجعنا ليُعْزيه الى غياب السببية -causality - وهي مقولة فلسفية تدل على الروابط الضرورية بين الظواهر«فلكل حادثة علة» وهي بمثابة مبدأ عقلي افترضته النظرة الواحدية الفلسفية مفادها : أنه لكل معلول علة أدت إلى حدوثه..
ونحن نتفق فعلا مع هذه المقولة فكثيرا مانتساءل عن الأسباب ولكننا سرعان ما نرفضها ..
لماذا ؟ للتملَّص من المسؤولية او لرفضنا الاعتراف بفكر الآخر او للتهرب من مسؤولية ارتكابنا الأخطاء تباعا دونما تصحيحها او العودة عنها .. برغم ترديدنا دوما كالببغاء:" اذا عُرِف السبب بطل العجب "، دون العمل بهذه المقولة .. اي معرفة السبب وراء الألغاز و الأحاجي التي اوصلتنا الى مرحلة تثير التساؤلات مع ان الأسباب بمتناول اليد ويلزمها فقط التمحيص والتدقيق لسد الثغرات بنسيجنا الإجتماعي والاقتصادي ..الخ..
والسبب ليس أي سبب وإنما السبب الحقيقي المتصف بالموضوعية والمنطق القادر على اقتحام عتمة الوهم المغلِّفة لبعض العقول ..الوهم المنبثق عن الأنانية والطمع والجهل .. فاي واحد من هذا الثلاثي المدمر لهو كفيل بالقضاء على الحقيقة فما بال اذا اجتمعت الثلاثة بحُزْمة واحدة ؟
علمونا منذ الصغر بأن البرهنة على اية نظرية هندسية تمر عبر محطات ثلاث : المفروض ، المطلوب ،و البرهان مرتكزين على نظريات عدة معتمَدة للتوصل الى البرهان الصحيح الداعم لحجتنا ..
والغريب أن المعادلات الرياضية والكيمائية والفيزيائية والاقتصادية نعتمدها بدراساتنا محققين أعلى العلامات ..فبينما نعتمد المنطق بمعادلاتنا العلمية والرياضية ..الخ ولكن بالواقع العملي والسلوكي والمعاش "يفتح الله" !
حتى حينما تقوم القلّة بتذكير الأكثرية بضرورة الرجوع إلى الأسباب المؤدية الى هكذا نتيجة .. يُعتَبَر هذا التذكير -من وجهة نظر الأكثرية بمثابة نحْس سوف ينحس القادم من المستقبل .. وهكذا نظل نقبع بزاوية لا مجال فيها للإتعاظ بالماضي ولا للتخطيط للمستقبل .. لرفض الأكثرية لمصفوفة الأسباب- السببية- بكل أشكالها..
مطمئنين بدورنا بأنه لا ضرر من العودة للماضي القريب وحتى البعيد منه لمعرفة الأسباب المتسلسلة ..
لماذا يدربوننا بالقواعد والعلوم على "علِّلْ ما يلي: اي اذكر السبب وراء هكذا ظاهرة .."
للأسف لا نربط مهارة التعليل بالواقع العملي والحواري ولهذا تتقطع الجسور ويتراجع العمل وتتراجع التنمية ويتراجع التقدم..
طالما اقترحنا تنشيط مسيرة التفكير الناقد ..فما نكاد نقترح ذلك حتى تستعيذ الغالبية من الشيطان الرجيم .. متسائلين :بدكُمْ تخلقوا مشاكل ؟
- حاشا لله .. ولكن إذا عُرِف السبب بطُلَ العجب واذا عُرِفَ الداء سهُل الدواء..
ولهذا يطالب جلالة الملك عبد الله الثاني باعتماد التفكير الناقد البنّاء التحليلي الموضوعي المنطقي ..لنعرف سبب المشكلة فيسهل حلها متجنبين الأسباب المؤدية لذلك عبر ايجاد حلول صحيحة وأكثر نفعا..
لا شك ان معرفة "الحقيقة" بقدر ما تكون مفيدة إلا أنها تقترن بالمخاوف والشك لانها تُرينا الجانبين المضيء والمظلم من "الفرد" و"الجماعة" و"الشيء "و"القضية"..
فأية قضية مهما كبرت وصغرت تحتاج الى عنصر الحقيقة المعتمد على المنطق والعلمية البعيدين كل البعد عن النظرة الوردية الحالمة بل "الواهمة" .. والحكيم من يتصرف على أساس أن "الورود" لا تخلو من "الأشواك" ليتعامل معها بحكمة و "حذر" ..إضافة الى ان الحكيم يربط النتائج بالأسباب تماما كربط المدخلات بالمخرجات،
فهل بالإمكان الحصول على منتَج لا يمت بصلة للمدخلات فنحصل على "قمح "لوزرعنا "بقدونس "؟
فالحقيقة .. اية حقيقة .. تتكون من ثوابت لا مجال لتغييرها سواء في المجالات العلمية أو الإجتماعية أو السياسية أو الإقتصادية أو حتى المعيشية ، ومع ذلك كثيرا ما نسمع لغطا لا يفرق بين الصح والخطأ.. وبين الشيء وضده .. كالخلط بين الفوضى والديمقراطية .. وبين الحزم والعدوانية .. وبين السفاهة والجرأة الأدبية .. وبين الحقيقة والخيال .. وايضا بين الوهم والخيال ..
علما بانه ما يُبنى على حق فهو حق .. وما يبنى على باطل فهو باطل ..
فالفوضى تتأتى نتيجة خلط المعايير وبعثرتها واستبدالها أحيانا بأخرى هجينة تدمر إيجابيات الصعد كافة .. ومن هذا المنطلق فحاجتنا للإرتقاء بالتفكير الناقد تحتّم علينا فتح الأبواب المؤدية للسببية ..ومن ثمّ مأسسة السببية علما وسلوكا وعملا وتعاملا ،حينذاك فقط نحكم ربط حلقة التفكير الناقد . . مستعيدين الحلقة الأمتن بسلسلة النمو والتطور !
صدقونا :السرّ كله بالسببية..