ناديا هاشم العالول
وندلو بدلونا في ينابيع الخير غارفين منها نفحات رمضانية تقلّم دواخلنا من أشواك التلوث التي علقت بنسيجها طيلة عام كامل.. وبخاصة إذا حققت عناصرها الروحانية هدفها في تقوية دعْم الجسور الواصلة بين الإنسان وخالقه من جهة ، وبين الإنسان واخيه الإنسان من جهة أخرى.. ولكن و للأسف الشديد قطعنا شوطا كبيرا بعيدا عن المعنى الحقيقي لرمضان ، نتيجة ضيق مساحة الوقت المخصصة للعبادات وللعمل ايضا ملاحقين كل « ما لا يَلزَم» ، على حساب «ما يَلزَم «.. ملزمين انفسنا بكل مظاهرالحياة المادية الخاوية من كل مضمون.. ولقد اوحى لي بيت ابو العلاء المعري في «لزوميات مالا يلزم» والقائل : إذا لـم تكـُنْ دنيـَاكَ دارَ إقـامةٍ فما لكَ تبنيهـا بنَـاءَ مُـقـيـم في كتابة هذه المقالة المتزامنة مع الشهر الكريم.. وفعلا لو ظهر ابو العلاء المعري المولود في سنة 363 هجرية في (معرة النعمان) من اعمال حمص ، لراعه الشقّة الفاصلة بين الشكل والمضمون.. بين ما لا يلزم.. وما يلزم.. فاللزوميات كما وصفها «فاروق شوشة « هي صوت المعري الحقيقي الرافض للفساد والظلم والطغيان والجبروت, صوته الهادر بالحزن والسخرية والمرارة ،صوته المُعْلي للكرامة واليقين العقلي والحرية الإنسانية, يرفعه في زمن لا يختلف كثيرا عن زماننا الذي نعيش.. ولكن من وجهة نظرنا المتواضعة :هنالك فرق كبير بين زمننا وزمنه.. فلو أجرينا مقارنة بين رمضان في فجر الإسلام ووقتنا الحاضر.. وحتى بين الماضي القريب والآن.. لاكتشفنا بأننا غرقنا بالمظاهر المادية التي الزمنا بها الشهر الكريم بإقحامه عنوة في بوتقة الموازين التجارية ليصبح « مالايلزَم» عاملا هاما من عوامل التسويق وتحقيق الأرباح ، و ما يتلازم معه من منافسة شديدة تتحكم بها شبكة اعلانية إعلامية تغسل أدمغة الناس.. ونتيجة لهذا التهافت المادي بأنواعه.. تضيق مساحة الوقت المخصصة للعبادات بينما تجول وتصول المهرجانات الرمضانية الاستهلاكية بكل ما لا يَلزَم ناسين أو مهملين فعلا في خضمها كل ما يَلزَم الروح والجسد والانجاز والعمل من تمارين روحية وعملية تشمل القلب والفكر والروح والسلوك والعمل.. فمثل هذه المعضلة الاستهلاكية لم تكن متفاقمة لا في الماضي القريب ولا البعيد لبساطة الحياة وخلوها من التعقيد حينذاك.. وفعلا لو دققنا في البرنامج اليومي الرمضاني للبعض من المنغمسين في سهر متقلِب بين ماراثون المسلسلات الرمضانية ، وملاحقة أهداف كأس العالم ، ودخان الأراجيل بالخيم الرمضانية.. وما تضيفه المدينة الصاخبة بمواصلاتها وضجيجها وتلوثها كلها برمتها بمثابة عوامل مثبِّطّة للإنجاز الروحي والمادي ، تخلق بلبلة جسدية وعقلية تنعكس سلبا على الأداء بأنواعه..وأشْوى شوية إنه غالبية الطلاب بإجازة ! فقلة النوم والراحة ترهق الجسد والروح رافعة نسبة الأدرينالين مجدّدَا وبخاصة بغياب الكوابح والضوابط عند البعض المفتقرين لمهارات التواصل العاطفي التي لم يتم تطويرها ، إذ ما اكثر ما يتركون لعواطفهم العنان دون اي محاولة من جهتهم للجم الفاظهم وأفعالهم المتناثرة سلبياتها لتحط على رؤوس العباد بدون هوادة..كأنها اصبحت ضربة لازم ! للأسف أصبح الغضب عند البعض نوعا من» البرستيج» ، والمصيبة أننا دائما نداري السفيه الغاضب ونتناسى العاقل.. فيزداد السفيه سفاهة..ويزداد العاقل حكمة.. وإن كان أحيانا الاتصاف بالحكمة هو مصدر همٌ وغمٌ للحكيم نفسه.. لأنه مطالَب دائما ب « تطويل» روحه لمداراة السفيه..وقد ينقلب العاقل إلى وحش كاسر بعد أن كان هادئا وديعا لأننا لم نجازيه على عقلانيته ومنطقه..وهكذا تنقلب الموازين وتفلت المعايير بين سفيه بطبيعته غير المنضبطة الرافضة للانضباط اصلا.. وحكيم قلبناه إلى سفيه لشدة الضغوط الواقعة عليه.. لتتقلّب الغالبية الكبرى بين سفيه وسفيه.. ولا عاقل بينهما ! ولا يسعا القول سوى: رحم الله امرىء عرف قَدْر نفسه ! ترى من المسؤول عن هذه السلوكيات المنافية للذوق والمخالفة للقانون ؟ لقد اعتدنا كلما رأينا سلوكا غير مقبول صادر عن جهة ما ، أن نقوم بإلقاء اللوم على الزمن الرديء الذي فتح الباب على مصراعيه لمثل هذه السلوكيات ،وكأنها نبعت لوحدها ونمت وترعرعت بقدرة قادر منفصلة عن العنصر الآدمي المنزّه عن إرتكاب الأخطاء! و تطول سلسلة الاخطاء فنخطىء بحق صحتنا أيضا عبر نظام غذائي غير متوازن فتتراكم السموم وتخزَّن الشحوم وما ينتج عنها من تراجع صحي وعملي.. فيعم التثاقل وتتراجع الإنتاجية.. حيث تعتبر الأخيرة بمثابة المحصلة النهائية لتراكمات عدة من سلبيات التنشئة والثقافة والسلوك وقلة الوعي.. ولهذا كل وانتاجيته! فان كان حال هذه الانتاجية سيئا قبل رمضان فهل سيكون أفضل أثناءه ! واخيرا لا يسعنا سوى أن نعترف بأن وتيرة الحياة اصبحت محمومة وسريعة لدرجة ان الإنسان نسي الاستماع الى حدْسه.. نعم الحدس..هذا الصوت الداخلي الخفي المحذِر المرافق لنا والذي طلما أهملناه.. وهذا هو الخطأ بعينه.. فالحدْس والضمير وجهان لعملة واحدة وعلينا ان نبقي بوابات التواصل مشرّعة بينهما.. فنعيد الثقة لحدسنا عندما نثق به ، فاتحين بذلك المجال لتعبيد البنية التحتية لضميرنا ، فيحدث التوافق بين الحدس والضمير معيدين بذلك التوازن المفقود لحياتنا....على الصعد كافة.. من خلال إلزام أنفسنا بكل يَلزَم.. ليصبح «كل ما يَلزّم»..عادة بل سلوكا مُلزِِِِما لنا !